للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذا تأسيس لا تأكيد فتذكر إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ للذنوب صغائرها وكبائرها حَلِيمٌ لا يعاجل بعقوبة المذنب، وقد جاءت هذه الجملة كالتعليل للعفو عن هؤلاء المتولين وكانوا أكثر القوم، فقد ذكر أبو القاسم البلخي أنه لم يبق مع النبي صلّى الله عليه وسلم يوم أحد إلا ثلاثة عشر نفسا خمسة من المهاجرين أبو بكر وعلي وطلحة وعبد الرحمن ابن عوف وسعد بن أبي وقاص، والباقون من الأنصار رضي الله تعالى عنهم أجمعين ومن مشاهير المنهزمين عثمان ورافع بن المعلى وخارجة بن زيد وأبو حذيفة بن عتبة والوليد بن عقبة وسعد وعقبة ابنا عثمان من الأنصار من بني زريق، وروي عن ابن عباس أن الآية نزلت في الثلاثة الأول، وعن غيره غير ذلك ولم يوجد في الآثار تصريح بأكثر من هؤلاء، ولعل الاقتصار عليهم لأنهم بالغوا في الفرار ولم يرجعوا إلا بعد مضي وقت إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى أن منهم من لم يرجع إلا بعد ثلاث، فزعموا أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: لقد ذهبتم بها عريضة، وأما سائر المنهزمين فقد اجتمعوا في ذلك اليوم على الجبل، وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان من هذا الصنف كما في خبر ابن جرير خلافا للشيعة وبفرض التسليم لا تعيير بعد عفو الله تعالى عن الجميع، ونحن لا ندعي العصمة في الصحابة رضي الله تعالى عنهم ولا نشترطها في الخلافة.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وهم المنافقون كعبد الله بن أبيّ وأصحابه قاله السدي.

ومجاهد- وإنما ذكر في صدر الجملة كفرهم تصريحا بمباينة حالهم لحال المؤمنين وتنفيرا عن مماثلتهم وهم هم، وفيه دليل على أن الإيمان ليس عبارة عن مجرد الإقرار باللسان- كما يقوله الكرامية- وإلا لما لما سمي المنافق كافرا، وقيل: المراد بالذين كفروا سائر الكفار على العموم أي لا تكونوا كالكفرة في نفس الأمر وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ في المذهب أو النسب، واللام تعليلية أي قالوا لأجلهم، وجعلها ابن الحاجب بمعنى عن، ولا يجوز أن يكون المراد مخاطبة الإخوان كما هو المتبادر لدلالة ما بعد على أنهم كانوا غائبين حين هذا القول، وقول بعضهم: يصح أن يكون جعل القول لإخوانهم باعتبار البعض الحاضرين والضرب الآتي لضرب آخر تكلف لا حاجة إليه سوى كثرة الفضول إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أي سافروا فيها لتجارة، أو طلب معاش فماتوا- قال السدي- وأصل الضرب إيقاع شيء على شيء، واستعمل في السير لما فيه من ضرب الأرض بالرجل، ثم صار حقيقة فيه، وقيل: أصل الضرب في الأرض الإبعاد في السير وهو ممنوع وخص الأرض بالذكر لأن أكثر أسفارهم كان في البر، وقيل: اكتفى بذكر الأرض مرادا بها البر عن ذكر البحر، وقيل: المراد من الأرض ما يشمل البر والبحر وليس بالبعيد، وجيء- بإذا- وحق الكلام إذ كما قالوا لقالوا الدال بهيئته على الزمان المنافي للزمان الدالة عليه إِذا مراعاة لحكاية الحال الماضية، ومعنى ذلك أن تقدر نفسك كأنك موجود في ذلك الزمان الماضي أو تقدر ذلك الزمان كأنه موجود الآن وهذا كقولك: قالوا ذلك حين يضربون والمعنى حين ضربوا إلا أنك جئت بلفظ المضارع استحضارا لصورة ضربهم في الأرض، واعترض بوجهين: الأول أن حكاية الحال إنما تكون حيث يؤتى بصيغة الحال وهذه صيغة استقبال لأن معنى إِذا ضَرَبُوا حين يضربون فيما يستقبل، الثاني أن قولهم: لو كانوا عندنا إنما هو بعد موتهم فكيف يتقيد بالضرب في الأرض.

وأجيب عن الأول بأن إِذا ضَرَبُوا في معنى الاستمرار كما في وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة: ١٤، ٧٦] فيفسد الاستحضار نظرا للحال، وعن الثاني بأن قالُوا لِإِخْوانِهِمْ في موقع جزاء الشرط من جهة المعنى فيكون المعنى لا تكونوا كالذين كفروا، وإذا ضرب إخوانهم فماتوا أَوْ كانُوا غُزًّى فقتلوا قالوا لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا فالضرب والقتل كلاهما في معنى الاستقبال، وتقييد القول بالضرب إنما هو باعتبار الجزء الأخير وهو الموت، والقتل فإنه وإن لم يذكر لفظا لدلالة ما في القول عليه فهو مراد معنى والمعتبر المقارنة عرفا كما في قوله تعالى: فَإِذا

<<  <  ج: ص:  >  >>