النصب لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ أي عدم الكون مثلهم حَسْرَةً يوم القيامة فِي قُلُوبِهِمْ حين يرون ما أعد الله تعالى لكم وَاللَّهُ يُحْيِي من يشاء بالحياة الأبدية وَيُمِيتُ من يشاء بموت الجهل والبعد عن الحضرة وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ تحذير عن الميل إلى قول المنكرين واعتقادهم وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ أيها المؤمنون فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في الجهاد أَوْ مُتُّمْ حتف الأنف وأنتم متلبسون به فعلا أو نية.
لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ أي الكفار من منافع الدنيا ولذاتها مدة أعمارهم وهذا ترغيب للمؤمنين في الجهاد وأنه مما يجب أن يتنافس فيه المتنافسون، وفيه تعزية لهم وتسلية مما أصابهم في سبيل الله تعالى إثر إبطال ما عسى أن يثبطهم عن إعلاء كلمة الله تعالى، واللام الأولى هي موطئة للقسم، والثانية واقعة في جواب القسم، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ووفائه بمعناه- ومغفرة- مبتدأ ومِنَ متعلقة بمحذوف وقع صفة لها ووصفت بذلك إظهارا للاعتناء بها ورمزا إلى تحقق وقوعها، وذهب غير واحد إلى تقدير صفة أخرى أي لمغفرة لكم من الله، وحذفت صفة رَحْمَةٌ لدلالة المذكور عليها والتنوين فيهما للتقليل ولا ينافي ذلك ما يشير إليه الوصف، وثبوت أصل الخيرية لما يجمعه الكفار كما يقتضيه أفعل التفضيل إما بناء على أن الذي يجمعونه في الدنيا قد يكون من الحلال الذي يعد خيرا في نفس الأمر. وإما أن ذلك وارد على حسب قولهم ومعتقدهم أن تلك الأموال خير، وجوز في- ما- أن تكون موصولة، أو نكرة موصوفة والعائد محذوف، أو مصدرية ويكون المفعول حينئذ محذوف أي من جمعهم المال، وقرأ نافع وأهل الكوفة- غير عاصم- «متّم» بالكسر ووافقهم حفص في سائر المواضع إلا هاهنا، وقرأ الباقون بضم الميم وهو على الأول من مات يمات مثل خفتم من خاف يخاف، وعلى الثاني من مات يموت مثل كنتم من كان يكون، وقرأ حفص عن عاصم يَجْمَعُونَ بالياء على صيغة الغيبة، وقرأ الباقون «تجمعون» بالتاء على صيغة الخطاب والضمير للمؤمنين، وقدم القتل على الموت لأنه أكثر ثوابا وأعظم عند الله تعالى، فترتب المغفرة والرحمة عليه أقوى وعكس في قوله سبحانه: وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ لأن الموت أكثر من القتل وهما مستويان في الحشر، والمعنى أنكم بأي سبب اتفق هلاككم تحشرون إلى الله تعالى لا إلى غيره فيجزي كلّا منكم كما يستحق فيجازي المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته وليس غيره يرجى منه ثواب، أو يتوقع منه دفع عقاب فآثروا ما يقرّبكم إليه ويجرّ لكم رضاه من العمل بطاعته والجهاد في سبيله ولا تركنوا إلى الدنيا، ومما ينسب للحسين رضي الله تعالى عنه:
فإن تكن الأبدان للموت أنشئت ... فقتل امرئ بالسيف والله أفضل
والكلام في اللامين كالكلام في أختيهما بلامين، وإدخال لام القسم على المعمول المقدم مشعر بتأكيد الحصر والاختصاص بأن ألوهيته تعالى هي التي تقتضي ذلك، وادعى بعضهم أن تقديم هذا المعمول لمجرد الاهتمام ويزيده حسنا وقوع ما بعده فاصلة، وما أشرنا إليه أولا أولى، قالوا: ولولا هذا التقديم لوجب توكيد الفعل بالنون لأن المضارع المثبت إذا كان مستقبلا وجب توكيده مع اللام خلافا للكوفيين حيث يجوزون التعاقب بينهما وظاهر صنيع بعض المحققين يشعر بأن في هذه الجملة مقدرا بقرينة ما قبله أي ولئن متم أو قتلتم في سبيل الله، ولعل الحمل على العموم أولى، وزعم بعض أن في الآية تقسيم مقامات العبودية إلى ثلاثة أقسام، فمن عبد الله تعالى خوفا من ناره آمنه مما يخاف وإليه الإشارة بقوله تعالى: لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ ومن عبد الله تعالى شوقا إلى جنته أناله ما يرجو، وإليه الإشارة بقوله سبحانه: وَرَحْمَةٌ لأن الرحمة من أسماء الجنة، ومن عبد الله تعالى شوقا إلى وجهه الكريم لا يريد غيره فهو العبد المخلص الذي يتجلى عليه الحق جل جلاله في دار كرامته، وإليه الإشارة بقوله عز اسمه: لَإِلَى اللَّهِ