للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا [المائدة: ٤١]- وإليه ذهب بعضهم- ومعنى يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ يقعون فيه سريعا لغاية حرصهم عليه وشدة رغبتهم فيه، ولتضمن المسارعة معنى الوقوع تعدت بفي دون إلى الشائع تعديتها بها كما في سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ [آل عمران: ١٣٣] وغيره، وأوثر ذلك قيل: للإشعار باستقرارهم في الكفر ودوام ملابستهم له في مبدأ المسارعة ومنتهاها كما في قوله سبحانه: يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ [آل عمران: ١١٤، المؤمنون: ٦١] في حق المؤمنين، وأما إيثار كلمة إلى في آيتها فلأن المغفرة والجنة منتهى المسارعة وغايتها والموصول فاعل يَحْزُنْكَ وليست الصلة علة لعدم الحزن كما هو المعهود في مثله لأن الحزن من الوقوع في الكفر هو الأمر اللائق لأنه قبيح عند الله تعالى يجب أن يحزن من مشاهدته فلا يصح النهي عن الحزن من ذلك، بل العلة هنا ما يترتب على تلك المسارعة من مراغمة المؤمنين وإيصال المضرة إليهم إلا أنه عبر بذلك مبالغة في النهي.

والمراد لا يحزنك خوف أن يضروك ويعينوا عليك، ويدل على ذلك إيلاء قوله تعالى: إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً ردا وإنكارا لظن الخوف، والكلام على حذف مضاف، والمراد أولياء الله مثلا للقرينة العقلية عليه، وفي حذف ذلك وتعليق نفي الضرر به تعالى تشريف للمؤمنين وإيذان بأن مضارتهم بمنزلة مضارته سبحانه وتعالى، وفي ذلك مزيد مبالغة في التسلية، وشَيْئاً في موضع المصدر أي لن يضروه ضررا ما، وقيل: مفعول بواسطة حرف الجر أي لن يضروه بشيء ما أصلا، وتأويل يضروا بما يتعدى بنفسه إلى مفعولين مما لا داعي إليه، ولعل المقام يدعو إلى خلافه، وقرأ نافع- «يحزن» - بضم الياء وكسر الزاي في جميع القرآن إلا قوله تعالى: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء: ١٠٣] فإنه فتحها وضم الزاي، وقرأ الباقون كما قرأ نافع في المستثنى.

وقرأ أبو جعفر عكس ما قرأ نافع، والماضي على قراءة الفتح حزن، وعلى قراءة الضم من أحزن، ومعناهما واحد إلا أن حزن لغة قليلة، وقيل: حزنته بمعنى أحدثت له حزنا. وأحزنته بمعنى عرضته للحزن، وقال الخليل: حزنته بمعنى جعلت فيه حزنا كدهنته بمعنى جعلت فيه دهنا، وأحزنته بمعنى جعلته حزينا.

وقرئ يسرعون بغير ألف من أسرع ويسارعون بالإمالة والتفخيم.

يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ استئناف لبيان الموجب لمسارعتهم كأنه قيل: لم يسارعون في الكفر مع أنهم لا ينتفعون به؟ فأجيب بأنه تعالى يريد أن لا يجعل لهم نصيبا ما من الثواب في الآخرة فهو يريد ذلك منهم، فكيف لا يسارعون، وفيه دليل على أن الكفر بإرادة الله تعالى وإن عاقب فاعله وذمه لأن ذلك لسوء استعداده المقتضي إفاضة ذلك عليه، وذكر بعض المحققين أن في ذكر الإرادة إيذانا بكمال خلوص الداعي إلى حرمانهم وتعذيبهم حيث تعلقت بهما إرادة أرحم الراحمين، وزعم بعضهم أنه مبني على مذهب الاعتزال وليس كذلك كما لا يخفى لأنه لم يقل لم يرد كفرهم ولا رمز إليه، وصيغة المضارع للدلالة على دوام الإرادة واستمرارها، ويرجع إلى دوام واستمرار منشأ هذا المراد وهو الكفر ففيه إشارة إلى بقائهم على الكفر حتى يهلكوا فيه وَلَهُمْ مع هذا الحرمان من الثواب بالكلية عَذابٌ عَظِيمٌ لا يقدر قدره، نقل عن بعضهم أنه لما دلت المسارعة في الشيء على عظم شأنه وجلالة قدرة عند المسارع وصف عذابه بالعظم رعاية للمناسبة وتنبيها على حقارة ما سارعوا فيه وخساسته في نفسه، وقيل:

إنه لما دل قوله تعالى: إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً على عظم قدر من قصدوا إضراره وصف العذاب بالعظم إيذانا بأن قصد إضرار العظيم أمر عظيم يترتب عليه العذاب العظيم، والجملة إما حال من الضمير في لهم أي يريد الله تعالى حرمانهم من الثواب معدا لهم عذاب عظيم، وإما مبتدأة مبينة لحظهم من العذاب إثر بيان أن لا شيء لهم من الثواب.

<<  <  ج: ص:  >  >>