لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لكي تظفروا وتفوزا بنيل المنية ودرك البغية والوصول إلى النجح في الطلبة وذلك حقيقة الفلاح، وهذه الآية على ما سمعت مشتملة على ما يرشد المؤمن إلى ما فيه مصلحة الدين والدنيا ويرقى به إلى الذروة العليا، وقرر ذلك بعضهم بأن أحوال الإنسان قسمان الأول ما يتعلق به وحده، والثاني ما يتعلق به من حيث المشاركة مع أهل المنزل والمدينة، وقد أمر سبحانه- نظرا إلى الأول- بالصبر ويندرج فيه الصبر على مشقة النظر، والاستدلال في معرفة التوحيد والنبوة والمعاد، والصبر على أداء الواجبات والمندوبات والاحتراز عن المنهيات والصبر على شدائد الدنيا وآفاتها ومخاوفها، وأمر- نظرا إلى الثاني- بالمصابرة ويدخل فيها تحمل الأخلاق الردية من الأقارب والأجانب وترك الانتقام منهم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد مع أعداء الدين باللسان والسنان، ثم إنه لما كان تكليف الإنسان بما ذكر لا بد له من إصلاح القوى النفسانية الباعثة على أضداد ذلك أمره سبحانه بالمرابطة أعم من أن تكون مرابطة ثغر أو نفس، ثم لما كانت ملاحظة الحق جل وعلا لا بدّ منها في جميع الأعمال والأقوال حتى يكون معتدا بها أمر سبحانه بالتقوى، ثم لما تمت وظائف العبودية ختم الكلام بوظيفة الربوبية وهو رجاء الفلاح منه انتهى، ولا يخفى أنه على ما فيه تمحل ظاهر وتعسف لا ينكره إلا مكابر، وأولى منه أن يقال: إنه تعالى أمر بالصبر العام أو لا لأنه كما في الخبر بمنزلة الرأس من الجسد وهو مفتاح الفرج.
وقال بعضهم: لكل شيء جوهر وجوهر الإنسان العقل، وجوهر العقل الصبر، وادعى غير واحد أن جميع المراتب العلية والمراقي السنية الدينية والدنيوية لا تنال إلا بالصبر، ومن هنا قال الشاعر:
لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى ... فما انقادت الآمال إلا لصابر
ثم إنه تعالى أمر ثانيا بنوع خاص من الصبر وهي المجاهدة التي يحصل بها النفع العام والعز التام،
وقد جاء عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم «إذا تركتم الجهاد سلط الله تعالى عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم»
ثم ترقى إلى نوع آخر من ذلك هو أعلى وأغلى وهو المرابطة التي هي الإقامة في ثغر لدفع سوء مترقب ممن وراءه، ثم أمر سبحانه آخر الأمر بالتقوى العامة إذ لولاها لأوشك أن يخالط تلك الأشياء شيء من الرياء والعجب، ورؤية غير الله سبحانه فيفسدها، وبهذا تم المعجون الذي يبرئ العلة وروق الشراب الذي يروي الغلة.
ومن هنا عقب ذلك بقوله عز شأنه: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وهذا مبني على ما هو المشهور في تفسير الآية، وقد روي في بعض الآثار غير ذلك، فقد اخرج ابن مردويه عن سلمة بن عبد الرحمن قال: أقبل عليّ أبو هريرة يوما فقال:
أتدري يا ابن أخي فيم أنزلت هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا إلخ؟ قلت: لا قال: إما إنه لم يكن في زمان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم غزو يرابطون فيه ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد يصلون الصلاة في مواقيتها ثم يذكرون الله تعالى فيها، ففيهم أنزلت أي اصْبِرُوا على الصلوات الخمس وَصابِرُوا أنفسكم وهواكم وَرابِطُوا في مساجدكم وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما علمكم لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ،
وأخرج مالك والشافعي وأحمد ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بما يمحو الله تعالى به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط» .
ولعل هذه الرواية عن أبي هريرة أصح من الرواية الأولى مع ما في الحكم فيها بأنه لم يكن في زمان النبي صلّى الله عليه وسلم غزو يرابطون فيه من البعد بل لا يكاد يسلم ذلك له، ثم إن هذه الرواية وإن كانت صحيحة لا تنافي التفسير المشهور