للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أفق السماء، وراحت الإبل حدبا حدابير [١] ، وضنّت المراضع عن أولادها فما تبضّ بقطرة، وجلفت السنة المال [٢] ، وأيقنّا أنّه الهلاك. فو الله إنى لفى ليلة صنّبر بعيدة ما بين الطّرفين [٣] ، إذ تضاغى أصيبيتنا [٤] من الجوع، عبد الله وعدىّ وسفّانة، فقام حاتم إلى الصبيّين، وقمت إلى الصبيّة، فو الله ما سكنوا إلّا بعد هدأة من الليل، ثم ناموا ونمت أنا معه، وأقبل يعلّلنى بالحديث، فعرفت ما يريد، فتناومت، فلمّا تهوّرت النجوم [٥] إذا شىء قد رفع كسر البيت [٦] ، فقال: من هذا؟ فولّى ثم عاد، فقال: من هذا؟ فولّى ثم عاد فى آخر الليل، فقال: من هذا؟ فقالت: جارتك فلانة، أتيتك من عند أصيبية يتعاوون عواء الذئاب من الجوع، فما وجدت معوّلا إلّا عليك أبا عدىّ، فقال:

والله لأشبعنّهم، فقلت: من أين؟ قال: لا عليك، فقال: أعجليهم فقد أشبعك الله وإيّاهم، فأقبلت المرأة تحمل ابنين ويمشى جانبيها أربعة، كأنّها نعامة حولها رئالها، فقام إلى فرسه فوجأ لبّته بمديته، فخرّ، ثم كشطه، ودفع المدية إلى المرأة فقال: شأنك (الآن) ، فاجتمعنا على اللحم، فقال: سوأة! أتأكلون دون الصّرم؟! [٧] ثم جعل يأتيهم بيتا بيتا ويقول؛ هبّوا أيّها القوم،


[١] الحدب: جمع حدباء، وهى التى بدت حراقفها وعظم ظهرها. الحدابير: جمع حدبار وحدبير، بكسر الحاء فيهما، وهى العجفاء الضامرة التى قد يبس لحمها من الهزال.
[٢] جلفت: أصل الجلف: القشر، فكأن السنة قشرت المال، والجالفة: السنة التى تذهب بأموال الناس.
[٣] الصنبر: الباردة، وليل الشتاء طويل، ويزيده الجوع طولا.
[٤] نص فى اللسان على أنه «قد جاء فى الشعر أصيبية، كأنه تصغير أصيبة» . وقد جاء هنا فى النثر أيضا.
[٥] تهورت النجوم: ذهب أكثرها.
[٦] كسر البيت: أسفل الشقة التى تلى الأرض من الخباء من حيث يكسر جانباه من عن يمين ويسار.
[٧] الصرم، بالكسر: الأبيات المجتمعة المنقطعة من الناس.

<<  <  ج: ص:  >  >>