تلك الفيافى ويكون مع الوحش لا يعقل ولا يفهم، إلا أن يذكر له ليلى فيبكى وينشد أشعارا يقولها فيها، قال: فرفعت الستر بينى وبينها، فإذا شقّة قمر لم تر عينى مثلها قطّ، فبكت وانتحبت، حتى ظننت- والله- أن قلبها قد انصدع، فقلت: أيّتها المرأة، أما تتّقين الله؟ فو الله ما قلت بأسا! فمكثت طويلا على تلك الحال من البكاء والنحيب، ثم قالت:
ألا ليت شعرى والخطوب كثيرة ... متى رحل قيس مستقلّ فراجع
بنفسى من لا يستقلّ برحله ... ومن هو إن لم يحفظ الله ضائع
ثم بكت حتى غشى عليها، فلما أفاقت قلت: ومن أنت يا أمة الله؟
قالت: أنا ليلى المشؤومة عليه غير المؤاسية له! فما رأيت «١» مثل حزنها عليه وجزعها، ولا مثل وجدها.
٩٨٩* وكان أبو المجنون ورهطه أتوا أبا ليلى وأهلها، وسألوهم بالرّحم، وعطفوا عليهم «٢» ، وأخبروهم بما ابتلى به، فأبى أبو ليلى، وحلف ألا يزوّجها إيّاه أبدا، فقال الناس لأبى المجنون: لو خرجت به إلى مكة فعاذ بالبيت ودعا الله رجونا أن ينساها أو يعافيه الله مما بتلى به، فحجّ، فبينما هو يمشى بمنى وأبوه معه قد أخذ بيده يريد الجمار، نادى مناد من تلك الخيام: يا ليلى! فخرّ مغشيّا عليه، واجتمع عليه الناس وضجّوا ونضحوا عليه من الماء، وأبوه يبكى عند رأسه، ثم أفاق وهو مصفرّ لونه متغيّر حاله، فأنشأ يقول:
وداع دعا إذا نحن بالخيف من منى ... فهيّج أحزان الفؤاد وما يدرى «٣»
دعا باسم ليلى غيرها فكأنّما ... أطار بليلى طائرا كان فى صدرى