القيس من استقباح ما له من القبح، ومثال هذا كمثال غزال المسك فإنه يخرج منه المسك والبعر، ولا يمنع طيب ما يخرج من مسكه من خبث ما يخرج من بعره، ولا تكون لذاذة ذلك الطيب حامية للخبث من الاستكراه، فأسكت الرجل عند ذلك.
وحضر عندي في بعض الأيام رجل من اليهود، وكنت إذ ذاك بالديار المصرية، وكان لليهود في هذا الرجل اعتقاد؛ لمكان علمه في دينهم وغيره، وكان لعمري كذلك، فجرى ذكر اللغات، وأن اللغة العربية هي سيدة اللغات، وأنها أشرفهن مكانا، وأحسنهن وضعا؛ فقال ذلك الرجل: كيف لا تكون كذلك، وقد جاءت آخرا فنفت القبيح من اللغات قبلها وأخذت الحسن؟ ثم إن واضعها تصرّف في جميع اللغات السالفة؛ فاختصر ما اختصر، وخفف ما خفف، فمن ذلك اسم الجمل؛ فإنه عندنا في اللسان العبراني «كوميل» ممالا على وزن فوعيل، فجاء واضع اللغة العربية وحذف منها الثقيل المستبشع، وقال: جمل، فصار خفيفا حسنا، وكذلك فعل في كذا وكذا، وذكر أشياء كثيرة، ولقد صدق في الذي ذكره؛ وهو كلام عالم به.
ومن أوصاف الكلمة أن تكون مبنيّة من حركات خفيفة، ليخف النطق بها، وهذا الوصف يترتب على ما قبله من تأليف الكلمة، ولهذا إذا توالى حركتان خفيفتان في كلمة واحدة لم تستثقل، وبخلاف ذلك الحركات الثقيلة، فإنه إذا توالى منها حركتان في كلمة واحدة استثقلت، ومن أجل ذلك استثقلت الضمة على الواو والكسرة على الياء؛ لأن الضمة من جنس الواو، والكسرة من جنس الياء، فتكون عند ذلك كأنها حركتان ثقيلتان.
ولنمثل لك مثالا لتهتدي به في هذا الموضع، وهو أنا نقول: إذا أتينا بلفظة مؤلفة من ثلاثة أحرف، وهي «ج ز ع» فإذا جعلنا الجيم مفتوحة فقلنا: الجزع أو مكسورة فقلنا: الجزع كان ذلك أحسن من أن لو جعلنا الجيم مضمومة فقلنا:
الجزع، وكذلك إذا والينا حركة الفتح فقلنا: الجزع كان ذلك أحسن من موالاة حركة الضم عند قولنا: الجزع، ومن المعلوم أن هذه اللفظة لم يكن اختلاف حركاتها مغيّرا لمخارج حروفها، حتى ينسب ذلك إلى اختلاف تأليف المخارج، بل