للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النوع العاشر في الحروف العاطفة والجارّة

وهذا موضع لطيف المؤخذ، دقيق المغزى، وما رأيت أحدا من علماء هذه الصناعة تعرّض إليه، ولا ذكره، وما أقول إنهم لم يعرفوه؛ فإن هذا النوع من الكلام أشهر من أن يخفى؛ لأنه مذكور في كتب العربية جميعها، ولست أعني بإيراده ههنا ما يذكره النحويون من أن الحروف العاطفة تتبع [المعطوف] المعطوف عليه في الإعراب، ولا أن الحروف الجارة تجرّ ما تدخل عليه، بل أمرا وراء ذلك، وإن كان المرجع فيه الى الأصل النحوي، فأقول:

إن أكثر الناس يضعون هذه الحروف في غير مواضعها؛ فيجعلون ما ينبغي أن يجرّ بعلى بفي في حروف الجرّ، وفي هذه الأشياء دقائق أذكرها لك.

أما حروف العطف فنحو قوله تعالى: والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين. والذي يميتني ثم يحيين

فالأول عطفه بالواو التي هي للجمع، وتقديم الإطعام على الإسقاء والإسقاء على الإطعام جائز لولا مراعاة حسن النظم، ثم عطف الثاني بالفاء؛ لأن الشفاء يعقب المرض بلا زمان خال من أحدهما، ثم عطف الثالث بثم؛ لأن الإحياء يكون بعد الموت بزمان، ولهذا جيء في عطفه بثم التي هي للتراخي، ولو قال قائل في موضع هذه الآية الذي يطعمني ويسقين ويمرضني ويشفين ويميتني ويحيين لكان للكلام معنى تام إلا أنه لا يكون كمعنى الآية؛ إذ كل شيء منها قد عطف بما يناسبه ويقع موقع السداد منه.

ومما جاء من هذا الباب قوله تعالى: قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره، ثم السبيل يسره، ثم أماته فأقبره، ثم إذا شاء أنشره

ألا ترى أنه لما قال: من نطفة خلقه

كيف قال: فقدره

ولم يقل ثم قدّره؛ لأن التقدير لما كان تابعا للخلقة وملازما لها عطفه عليها بالفاء، وذلك بخلاف قوله:

<<  <  ج: ص:  >  >>