فإن قلت: إن الواضع إنما وضع المفرد من الألفاظ والجمع وضعه غيره.
قلت في الجواب: إن الذي وضع المفرد هو الذي وضع الجمع؛ لأن من قواعد وضع اللغة أن يوضع المفرد، والجمع، والمذكر، والمؤنث، والمصغر، والمكبر، والمصادر، وأسماء الفاعلين، وما جرى هذا المجرى، وإذا أخلّ بشيء من ذلك كان قد أخلّ بقاعدة من قواعد وضع اللغة، ثم لو سلمت إليك أن واضع الجمع غير واضع المفرد لكان ذلك قدحا في الواضع الثاني؛ إذ جاء بالإبهام عند إطلاق اللفظ، لأنه جمع كعبة التي هي البنيّة وكعب الرجل، على كعاب؛ وهذا لفظ مشترك مبهم عند الإطلاق، ولا فرق بين أن يضعه الواضع الأول أو واضع ثان؛ فإن الإبهام حاصل منه.
وكان فاوضني بعض الفقهاء في قوله تعالى في سورة البقرة: صفراء فاقع لونها تسر الناظرين
وقال: إن لون البقرة كان أسود، والأصفر هو الأسود، فأنكرت عليه هذا القول، فأخذ يجادل مجادلة غير عارف، ويعزو ذلك إلى تفسير النقاش، وتفسير البلاذري، فقلت له: اعلم أن هذا الاسم الذي هو الأصفر لا يخلو في دلالته على الأسود من وجهين: إما أنه من الأسماء المتباينة التي يدل كل اسم منها على مسمّى واحد كالإنسان والأسد والفرس وغير ذلك، وإما أنه من الأسماء المشتركة التي يدل الاسم منها على مسمّيين فصاعدا، ولا يجوز أن يكون من الأسماء المتباينة؛ لأنا نراه متجاذبا بين لونين: أحدهما: هذا اللون الزعفراني الشكل، والآخر: اللون المظلم الشكل، وعلى هذا فإنه يكون من الأسماء المشتركة، وإذا كان من الأسماء المشتركة فلا بدّ له من قرينة تخصصه باللون الزعفراني دون اللون المظلم؛ لأن الله تعالى قال: صفراء فاقع لونها
والفاقع من صفات اللون الزعفراني خاصة؛ لأنه قد ورد للألوان صفات متعددة لكل لون منها صفة، فقيل: أبيض يقق، وأسود حالك، وأحمر قان، وأصفر فاقع، ولم يقل أسود فاقع، ولا أصفر حالك، فعلم حينئذ أن لون البقرة لم يكن أسود، وإنما كان أصفر، فلما تحقّق عند ذلك الفقيه ما أشرت إليه أذعن بالتسليم.
[وأما النوع الثالث:]
فهو معرفة أمثال العرب وأيامهم، ومعرفة الوقائع التي