قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:«أوتيت جوامع الكلم» فالكلم: جمع كلمة، والجوامع:
جمع جامعة، والجامعة: اسم فاعلة من جمعت فهي جامعة، كما يقال في المذكر:
جمع فهو جامع، والمراد بذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم أوتي الكلم الجوامع للمعاني، وهو عندي ينقسم قسمين: القسم الأول منهما هو ما استخرجته ونبهت عليه، ولم يكن لأحد فيه قول سابق، وهو أن لنا ألفاظا تتضمن من المعنى ما لا تتضمنه أخواتها مما يجوز أن يستعمل في مكانها؛ فمن ذلك ما يأتي على حكم المجاز، ومنه ما يأتي على حكم الحقيقة:
أما ما يأتي على حكم المجاز فقوله صلّى الله عليه وسلّم يوم حنين:«الآن حمي الوطيس» ؛ وهذا لم يسمع من أحد قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولو أتينا بمجاز غير ذلك في معناه فقلنا:«استعرت الحرب» لما كان مؤديا من المعنى ما يؤديه «حمي الوطيس» والفرق بينهما أن الوطيس هو التّنّور، وهو موطن الوقود ومجتمع النار، وذلك يخيل إلى السامع أن هناك صورة شبيهة بصورته في حميها وتوقّدها، وهذا لا يوجد في قولنا:«استعرت الحرب» أو ما جرى مجراه.
وكذلك قال صلّى الله عليه وسلّم:«بعثت في نفس السّاعة» فقوله: «نفس الساعة» من العبارة العجيبة التي لا يقوم غيرها مقامها؛ لأن المراد بذلك أنه بعث والساعة قريبة منه، لكن قربها منه لا يدل على ما دل عليه النّفس، وذاك أن النفس يدل على أن الساعة منه بحيث يحس بها كما يحس الإنسان بنفس من هو إلى جانبه، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم في موضع آخر:«بعثت أنا والسّاعة كهاتين» وجمع بين أصبعيه السّبّابة والوسطى، ولو قال بعثت على قرب من الساعة أو والساعة قريبة مني لما دلّ ذلك على ما دلّ عليه نفس الساعة، وهذا لا يحتاج إلى الإطالة في بيانه؛ لأنه بيّن واضح.
وقد ورد شيء من ذلك في أقوال الشعراء المفلقين، ولقد تصفحت الأشعار