للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ليس بمتعارف، ألا ترى أن من العادة والعرف أن تشبه الأعجاز بالكثبان، فلما عكس ذو الرمة هذه القضية في شعره جاء حسنا لائقا؟ وكذلك فعل البحتري؛ فإن من العادة والعرف أن يشبه الوجه الحسن بالبدر والقدّ الحسن بالقضيب، فلما عكس البحتري القضية في ذلك جاء أيضا حسنا لائقا، ولو شبه ذو الرمة الكثبان بما هو أصغر منها غير الأعجاز لما حسن ذلك؛ وهكذا لو شبه البحتري طلعة البدر بغير طلعة الحسناء والقضيب بغير قدّها لما حسن ذلك أيضا، وهكذا القول في تشبيه عبد الله بن المعتز صورة الهلال بالقلامة؛ لأن من العادة أن تشبه القلامة بالهلال، فلما صار ذلك مشهورا متعارفا حسن عكس القضية فيه.

[النوع الثالث في التجريد]

وهذا اسم كنت سمعته؛ فقال القائل: التجريد في الكلام حسن، ثم سكت، فسألته عن حقيقته، فقال: كذا سمعت، ولم يزد شيئا؛ فأنعمت حينئذ نظري في هذا النوع من الكلام، فألقي في روعي أنه ينبغي أن يكون كذا وكذا، وكان الذي وقع لي صوابا، ثم مضى على ذلك برهة من الزمان، ووصل إلى ما ذكره أبو علي الفارسي رحمه الله تعالى، وقد أوردته ههنا، وذكرت ما أتيت به من ذات خاطري من زيادة لم يذكرها، وستقف أيها المتأمل على كلامه وكلامي.

فأما حدّ التجريد فإنه إخلاص الخطاب لغيرك، وأنت تريد به نفسك، لا المخاطب نفسه؛ لأن أصله في وضع اللغة من جرّدت السيف؛ إذا نزعته من غمده، وجرّدت فلانا؛ إذا نزعت ثيابه، ومن ههنا قال صلّى الله عليه وسلّم: «لا مدّ ولا تجريد» وذلك في النهي عند إقامة الحد أن يمدّ صاحبه على الأرض وأن تجرّد عنه ثيابه، وقد نقل هذا المعنى إلى نوع من أنواع علم البيان.

وقد تأملته فوجدت له فائدتين: إحداهما أبلغ من الأخرى:

فالأولى: طلب التوسع في الكلام، فإنه إذا كان ظاهره خطابا لغيرك وباطنه

<<  <  ج: ص:  >  >>