اعلم أن هذا باب متعذر على الوالج، ومسلك متوعر على الناهج، ولم يزل العلماء من قديم الوقت وحديثه يكثرون القول فيه والبحث عنه، ولم أجد من ذلك ما يعول عليه إلا القليل.
وغاية ما يقال في هذا الباب: إن الفصاحة هي الظهور والبيان في أصل الوضع اللغوي، يقال: أفصح الصّبح، إذا ظهر، ثم إنهم يقفون عند ذلك، ولا يكشفون عن السر فيه.
وبهذا القول لا تتبين حقيقة الفصاحة؛ لأنه يعترض عليه بوجوه من الاعتراضات:
أحدها: أنه إذا لم يكن اللفظ ظاهرا بيّنا لم يكن فصيحا، ثم إذا ظهر وتبين صار فصيحا.
الوجه الآخر: أنه إذا كان اللفظ الفصيح هو الظاهر البين فقد صار ذلك بالنّسب والإضافات إلى الأشخاص؛ فإن اللفظ قد يكون ظاهرا لزيد، ولا يكون ظاهرا لعمرو، فهو إذا فصيح عند هذا وغير فصيح عند هذا، وليس كذلك، بل الفصيح هو فصيح عند الجميع، لا خلاف فيه بحال من الأحوال؛ لأنه إذا تحقق حد الفصاحة وعرف ما هي لم يبق في اللفظ الذي يختص به خلاف.
الوجه الآخر: أنه إذا جيء بلفظ قبيح ينبو عنه السمع، وهو مع ذلك ظاهر بين، ينبغي أن يكون فصيحا، وليس كذلك؛ لأن الفصاحة وصف حسن اللفظ، لا وصف قبح.
فهذه الاعتراضات الثلاثة واردة على قول القائل:«إن اللفظ الفصيح هو الظاهر البين» من غير تفصيل.