- وهو الاطلاع على كلام المتقدمين من المنظوم والمنثور- فإن في ذلك فوائد جمة؛ لأنه يعلم منه أغراض الناس، ونتائج أفكارهم، ويعرف به مقاصد كل فريق منهم، وإلى أين ترامت به صنعته في ذلك، فإن هذه الأشياء مما تشحذ القريحة، وتذكي الفطنة، وإذا كان صاحب هذه الصناعة عارفا بها تصير المعاني التي ذكرت وتعب في استخراجها كالشيء الملقى بين يديه يأخذ منه ما أراد ويترك ما أراد، وأيضا فإنه إذا كان مطلعا على المعاني المسبوق إليها قد ينقدح له من بينها معنى غريب لم يسبق إليه، ومن المعلوم أن خواطر الناس وإن كانت متفاوتة في الجودة والرداءة فإن بعضها لا يكون عاليا على بعض أو منحطا عنه إلا بشيء يسير، وكثيرا ما تتساوى القرائح والأفكار في الإتيان بالمعاني، حتى إن بعض الناس قد يأتي بمعنى موضوع بلفظ، ثم يأتي الآخر بعده بذلك المعنى واللفظ بعينهما من غير علم منه بما جاء به الأول، وهذا الذي يسميه أرباب هذه الصناعة وقوع الحافر على الحافر، وسيأتي لذلك باب مفرد في آخر كتابنا هذا؛ إن شاء الله تعالى.
[وأما النوع الخامس:]
- وهو معرفة الأحكام السلطانية من الإمامة والإمارة والقضاء والحسبة وغير ذلك- فإنما أوجبنا معرفتها والإحاطة بها لما يحتاج إليه الكاتب في تقليدات الملوك والأمراء والقضاة والمحتسبين ومن يجري مجراهم، وأيضا فإنه قد يحدث في الإمامة حادث في بعض الأوقات: بأن يموت الإمام القائم بأمر المسلمين، ثم يتولى من بعده من لم تكمل فيه شرائط الإمامة، أو يكون كامل الشرائط غير أن الإمام الذي كان قبله عهد بها إلى آخر غيره وهو ناقص الشرائط، أو يكون قد تنازع الإمامة اثنان، أو يكون أرباب الحل والعقد قد اختاروا إماما وهم غير كاملي الشرائط التي تجب أن توجد فيهم، أو يكون أمر غير ما ذكرناه، فتختلف الأطراف في ذلك، وينتصب ملك من الملوك له عناية بالإمام الذي قد قام للمسلمين، فيأمر كاتبه أن يكتب كتابا في أمره إلى الأطراف المخالفة له، وإذا لم يكن الكاتب عند ذلك عارفا بالحكم في هذه الحوادث، واختلاف أقوال العلماء فيها، وما هو رخصة في ذلك وما ليس برخصة؛ لا يكتب كتابا ينتفع به، ولسنا نعني بهذا القول أن يكون الكتاب مقصورا على فقه محض فقط؛ لأنا لو أردنا ذلك لما