وهذا الفصل هو ميزان الخواطر الذي يوزن به نقد درهمها ودينارها، بل المحكّ الذي يعلم منه مقدار عيارها، ولا يزن به إلا ذو فكرة متّقدة، ولمحة منتقدة، فليس كل من حمل ميزانا سمّي صرّافا، ولا كل من وزن به سمّي عرّافا، والفرق بين هذا الترجيح الفقهي أن هناك يرجّح بين دليلي الخصمين في حكم شرعي، وههنا يرجح بين جانبي فصاحة وبلاغة في ألفاظ ومعان خطابية؛ وبيان ذلك أن صاحب الترجيح الفقهي يرجع بين خبر التواتر مثلا وبين خبر الآحاد، أو بين المسند والمرسل، أو ما جرى هذا المجرى، وهذا لا يعرض إليه صاحب علم البيان؛ لأنه ليس من شأنه، ولكن الذي هو من شأنه أن يرجع بين حقيقة ومجاز، أو بين حقيقتين، أو بين مجازين، ويكون ناظرا في ذلك كله إلى الصناعة الخطابية، ولربما اتفق هو وصاحب الترجيح الفقهي في بعض المواضع؛ كالترجيح بين عام وخاص، أو ما شابه ذلك.
وكنا قد قدمنا القول في الحكم على المعاني وانقسامها، ولنبين في هذا الفصل مواضع الترجيح بين وجوه تأويلاتها؛ فنقول:
أما القسم الأول من المعاني فلا تعلق للترجيح به، إذا ما دلّ عليه ظاهر لفظه ولا يحتمل إلا وجها واحدا فليس من هذا الباب في شيء، والترجيح إنما يقع بين معنيين يدل عليهما لفظ واحد.
ولا يخلو الترجيح بينهما من ثلاثة أقسام: إما أن يكون اللفظ حقيقة في أحدهما مجازا في الآخر، أو حقيقة فيهما جميعا، أو مجازا فيهما جميعا، وليس لنا قسم رابع، والترجيح بين الحقيقتين أو بين المجازين يحتاج إلى نظر، وأما الترجيح بين