ولربما اعترض معترض في هذا الموضوع فقال: قد تقدم نثر الشعر في أول الكتاب، وهو أخذ الناثر من الناظم، ولا فرق بينه وبين أخذ الناظم من الناظم، فلم يكن إلى ذكر السرقات الشعرية إذن حاجة. ولو أنعم هذا المعترض نظره لظهر له الفرق، وعلم أن نثر الشعر لم يتعرض فيه إلى وجوه المأخذ وكيفية التوصل إلى مداخل السرقات؛ وهذا النوع يتضمن ذكر ذلك مفصلا.
واعلم أن الفائدة من هذا النوع أنك تعلم أين تضع يدك في أخذ المعاني؛ إذ لا يستغني الآخر عن الاستعارة من الأول، لكن لا ينبغي لك أن تعجل في سبك اللفظ على المعنى المسروق فتنادي على نفسك بالسرقة، فكثيرا ما رأينا من عجل في ذلك فعثر، وتعاطى فيه البديهة فعقر، والأصل المعتمد عليه في هذا الباب التورية والاختفاء بحيث يكون ذلك أخفى من سفاد الغراب، وأظرف من عنقاء مغرب في الإغراب.
وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أنه ليس لقائل أن يقول: إن لأحد من المتأخرين معنى مبتدعا؛ فإن قول الشعر قديم منذ نطق باللغة العربية، وإنه لم يبق معنى من المعاني إلا وقد طرق مرارا.
وهذا القول وإن دخل في حيز الإمكان إلا أنه لا يلتفت إليه؛ لأن الشعر من الأمور المتناقلة، والذي نقلته الأخبار وتواردت عليه أن العرب كانت تنظم المقاطيع من الأبيات فيما يعنّ لها من الحاجات، ولم يزل الحال على هذه الصورة إلى عهد امريء القيس، وهو قبل الإسلام بمائة سنة زائدا فناقصا؛ فقصّد القصائد، وهو أول من قصّد، ولو لم يكن له معنى اختص به سوى أنه أول من قصّد القصائد لكان في ذلك كفاية، وأي فضيلة أكبر من هذه الفضيلة؟ ثم تتابع المقصّدون، واختير من