صحيح ثابت، وأما إشهادهم فما هو إلا تهاون بهم، ودلالة على قلة المبالاة بأمرهم، ولذلك عدل به عن لفظ الأول؛ لاختلاف ما بينهما، وجيء به على لفظ الأمر، كما يقول الرجل لمن يبس الثرى بينه وبينه: اشهد عليّ أني أحبك، تهكما به، واستهانة بحاله.
وكذلك يرجع عن الفعل الماضي إلى فعل الأمر؛ إلا أنه ليس كالأول، بل إنما يفعل ذلك توكيدا لما أجري عليه فعل الأمر؛ لمكان العناية بتحقيقه، كقوله تعالى: قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين
الآية، وكان تقدير الكلام أمر؛ ربي بالقسط وبإقامة وجوهكم عند كل مسجد، فعدل عن ذلك إلى فعل الأمر؛ للعناية بتوكيده في نفوسهم؛ فإن الصلاة من أوكد فرائض الله على عباده، ثم أتبعها بالإخلاص الذي هو عمل القلب، إذ عمل الجوارح لا يصح إلا بإخلاص النية، ولهذا قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:«الأعمال بالنّيّات» .
واعلم أيها المتوشّح لمعرفة علم البيان، أن العدول عن صيغة من الألفاظ إلى صيغة اخرى لا يكون إلا لنوع خصوصية اقتضت ذلك، وهو لا يتوخّاه في كلامه إلا العارف برموز الفصاحة والبلاغة، الذي اطلع على أسرارهما، وفتش عن دفائنهما، ولا تجد ذلك في كل كلام؛ فإنه من أشكل ضروب علم البيان، وأدقّها فهما، وأغمضها طريقا.
[القسم الثالث:]
في الإخبار عن الفعل الماضي بالمستقبل، وعن المستقبل بالماضي، فالأول الإخبار بالفعل المستقبل عن الماضي: اعلم أن. الفعل المستقبل إذا أتي به في حالة الإخبار عن وجود الفعل كان ذلك أبلغ من الإخبار بالفعل الماضي، وذاك لأن الفعل المستقبل يوضح الحال التي يقع فيها، ويستحضر تلك الصورة حتى كأن السامع يشاهدها، وليس كذلك الفعل الماضي، وربما أدخل في هذا الموضع ما ليس منه جعلا بمكانه، فإنه ليس كل فعل مستقبل يعطف على ماض بجار هذا المجرى.