وسأبين ذلك فأقول: عطف المستقبل على الماضي ينقسم إلى ضربين:
أحدهما بلاغي، وهو إخبار عن ماض بمستقبل، وهو الذي أنا بصدد ذكره في كتابي هذا الذي هو موضوع لتفصيل ضروب الفصاحة والبلاغة، والآخر غير بلاغي، وليس إخبار بمستقبل عن ماض، وإنما هو مستقبل دلّ على معنى مستقبل غير ماض، ويراد به أن ذلك الفعل مستمر الوجود لم يمض.
فالضرب الأول كقوله تعالى: والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور
فإنه إنما قال: فتثير
مستقبلا وما قبله وما بعده ماض لذلك المعنى الذي أشرنا إليه، وهو حكاية الحبل التي يقع فيها إثارة الريح السحاب، واستحضار تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الباهرة، وهكذا يفعل بكل فعل فيه نوع تمييز وخصوصية، كحال تستغرب أو تهمّ المخاطب أو غير ذلك.
وعلى هذا الأسلوب ما ورد من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه في غزوة بدر: فإنه قال: لقيت عبيدة بن سعيد بن العاص وهو على فرس وعليه لأمة «١» كاملة لا يرى منه إلا عيناه، وهو يقول: أنا أبو ذات الكئوس، وفي يدي عنزة «٢» فأطعن بها في عينه، فوقع، وأطأ برجلي على خده حتى خرجت العنزة متعقّفة «٣» ؛ فقوله:«فأطعن بها في عينه، وأطأ برجلي» معدول به عن لفظ الماضي إلى المستقبل؛ ليمثل للسامع الصورة التي فعل فيها ما فعل من الإقدام والجراءة على قتل ذلك الفارس المستلئم، ألا ترى أنه قال أولا: لقيت عبيدة، بلفظ الماضي، ثم قال بعد ذلك: فأطعن بها في عينه، ولو عطف كلامه على أوله لقال: فطعنت بها في عينه.