وهي تنقسم إلى قسمين: الأول منها في الكلام على المعاني مجملا، والثاني في الكلام عليها مفصلا.
وقبل الكلام على ذلك لا بد من توطئة تكون شاملة لما نحن بصدد ذكره ههنا، فأقول:
اعلم أن المعاني الخطابية قد حصرت أصولها، وأول من تكلم في ذلك حكماء اليونان، غير أن ذلك الحصر كليّ لا جزئي، ومحال أن تحصر جزئيات المعاني وما يتفرع عليها من التفريعات التي لا نهاية لها، لا جرم أن ذلك الحصر لا يستفيد بمعرفته صاحب هذا العلم، ولا يفتقر إليه؛ فإن البدوي البادي راعي الإبل ما كان يمرّ شيء من ذلك بفهمه، ولا يخطر بباله، ومع هذا فإنه كان يأتي بالسحر الحلال إن قال شعرا أو تكلم نثرا.
فإن قيل: إن ذلك البدويّ كان له ذلك طبعا وخليقة، والله فطره عليه كما فطر ضروب نوع الآدمي على فطر مختلفة هي لهم في أصل الخلقة؛ فإنه فطر الترك على الإحسان في الرمي والإصابة فيه من غير تعليم، وكذلك فطر أهل الصين على الإحسان في صنعة اليد فيما يباشرونه من مصوغ أو خشب أو فخّار أو غير ذلك، وكذلك فطر أهل المغرب على الشجاعة، وهذا لا نزاع فيه، فإنه مشاهد.
فالجواب عن ذلك أني أقول: إن سلمت إليك أن الشعر والخطابة كانا للعرب بالطبع والفطرة فماذا تقول فيمن جاء بعدهم من شاعر وخطيب تحضّروا وسكنوا البلاد، ولم يروا البادية ولا خلقوا بها، وقد أجادوا في تأليف النظم والشعر، وجاءوا بمعان كثيرة ما جاءت في شعر العرب ولا نطقوا بها.
فإن قلت: إن هؤلاء وقفوا على ما ذكره علماء اليونان وتعلموا منه.