قلت لك في الجواب: هذا شيء لم يكن، ولا علم أبو نواس شيئا منه، ولا مسلم بن الوليد، ولا أبو تمام، ولا البحتري، ولا أبو الطيب المتنبي، ولا غيرهم، وكذلك جرى الحكم في أهل الكتابة كعبد الحميد، وابن العميد، والصابي، وغيرهم، فإن ادعيت أن هؤلاء تعلموا ذلك من كتب علماء اليونان قلت لك في الجواب: هذا باطل بي أنا؛ فإني لم أعلم شيئا مما ذكره حكماء اليونان، ولا عرفته، ومع هذا فانظر إلى كلامي، فقد أوردت لك نبذة منه في هذا الكتاب، وإذا وقفت على رسائلي ومكاتباتي وهي عدّة مجلدات، وعرفت أني لم أتعرض لشيء مما ذكره حكماء اليونان في حصر المعاني علمت حينئذ أن صاحب هذا العلم من النظم والنثر بنجوة من ذلك كله، وأنه لا يحتاج إليه أبدا؛ وفي كتابي هذا ما يغنيك، وهو كاف.
ولقد فاوضني بعض المتفلسفين في هذا، وانساق الكلام إلى شيء ذكر لأبي علي بن سنا في الخطابة والشعر، وذكر ضربا من ضروب الشعر اليوناني يسمى اللاغوذيا، وقام فأحضر كتاب الشفاء لأبي علي، ووقفني على ما ذكره، فلما وقفت عليه استجهلته؛ فإنه طوّل فيه وعرض، كأنه يخاطب بعض اليونان، وكل الذي ذكره لغو لا يستفيد به صاحب الكلام العربي شيئا، ثم مع هذا جميعه فإن معوّل القوم فيما يذكر من الكلام الخطابي أنه يورد على مقدمتين ونتيجة، وهذا مما لم يخطر لأبي علي بن سينا ببال فما صاغه من شعر أو كلام مسجوع، فإن له شيئا من ذلك في كلامه، وعند إفاضته في صوغ ما صاغه لم تخطر المقدمتان والنتيجة له ببال، ولو أنه أفكر أولا في المقدمتين والنتيجة ثم أتى بنظم أو نثر بعد ذلك لما أتى بشيء ينتفع به، ولطال الخطب عليه، بل أقول شيئا آخر، وهو: أن اليونان أنفسهم لما نظموا ما نظموه من أشعارهم لم ينظموه في وقت نظمه وعندهم فكرة في مقدمتين ولا نتيجة، وإنما هذه أوضاع توضع ويطول بها مصنفات كتبهم في الخطابة والشعر، وهي كما يقال: فقاقع ليس لها طائل، كأنها شعر الأبيوردي.
وحيث أوردت هذه المقدمة قبل الخوض في تقسيم المعاني فإني راجع إلى شرح ما أجملته، فأقول: