ولما وقفت على أقوال الناس في هذا الباب ملكتني الحيرة فيها، ولم يثبت عندي منها ما أعوّل عليه، ولكثرة ملابستي هذا الفن ومعاركتي إياه انكشف لي السر فيه، وسأوضحه في كتابي هذا، وأحقق القول فيه؛ فأقول: إن الكلام الفصيح هو الظاهر البين، وأعني بالظاهر البين أن تكون ألفاظه مفهومة لا يحتاج في فهمها إلى استخراج من كتاب لغة، وإنما كانت بهذه الصفة لأنها تكون مألوفة الاستعمال بين أرباب النظم والنثر دائرة في كلامهم، وإنما كانت مألوفة الاستعمال دائرة في الكلام دون غيرها من الألفاظ لمكان حسنها، وذلك أن أرباب النظم والنثر غربلوا اللغة باعتبار ألفاظها، وسبروا وقسموا، فاختاروا الحسن من الألفاظ فاستعملوه، ونفووا القبيح منها فلم يستعملوه، فحسن الألفاظ «١» سبب استعمالها دون غيرها، واستعمالها دون غيرها سبب ظهورها وبيانها؛ فالفصيح إذا من الألفاظ هو الحسن.
فإن قيل: من أي وجه علم أرباب النظم والنثر الحسن من الألفاظ حتى استعملوه، وعلموا القبيح منها حتى نفوه ولم يستعملوه؟.
قلت في الجواب: إن هذا من الأمور المحسوسة التي شاهدها من نفسها؛ لأن الألفاظ داخلة في حيّز الأصوات؛ فالذي يستلذه السمع منها ويميل إليه هو الحسن، والذي يكرهه وينفر عنه هو القبيح؛ ألا ترى أن السمع يستلذ صوت البلبل من الطير وصوت الشّحرور، ويميل إليهما، ويكره صوت الغراب، وينفر عنه، وكذلك يكره نهيق الحمار، ولا يجد ذلك في صهيل الفرس، والألفاظ جارية هذا المجرى؛ فإنه لا خلاف في أن لفظة المزنة والدّيمة حسنة يستلذها السمع، وأن لفظة البعاق «٢» قبيحة يكرهها السمع، وهذه اللّفظات الثلاثة من صفة المطر، وهي تدل على معنى واحد، ومع هذا فإنك ترى لفظتي المزنة والدّيمة وما جرى مجراهما مألوفة الاستعمال، وترى لفظ البعاق وما جرى مجراه متروكا لا يستعمل؛ وإن استعمل فإنما يستعمله جاهل بحقيقة الفصاحة أو من ذوقه غير ذوق سليم، لا جرم