وردت في حوادث خاصة بأقوام، وقولي هذا لا يقتضي كل الأمثال الواردة عنهم؛ فإنّ منها ما لا يحسن استعماله، كما أن من ألفاظهم أيضا ما لا يحسن استعماله، وكنت جردت من كتاب الأمثال للميداني أوراقا خفيفة تشتمل على الحسن من الأمثال الذي يدخل في باب الاستعمال؛ وسبيل المتصدّي لهذا الفن أن يسلك ما سلكته، وليعلم أن الحاجة إليها شديدة، وذلك أن العرب لم تضع الأمثال إلا لأسباب أوجبتها، وحوادث اقتضتها، فصار المثل المضروب لأمر من الأمور عندهم كالعلامة التي يعرف بها الشيء، وليس في كلامهم أوجز منها، ولا أشد اختصارا.
وسبب ذلك ما أذكره لك لتكون من معرفته على يقين، فأقول: قد جاء عن العرب من جملة أمثاله «إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر» وهو مثل يضرب للأمر الظاهر المشهور، والأصل فيه كما قال المفضل بن محمد «١» : أنه بلغنا أن بني ثعلبة بن سعد بن ضبّة في الجاهلية تراهنوا على الشمس والقمر ليلة أربع عشرة من الشهر؛ فقالت طائفة: تطلع الشمس والقمر يرى، وقالت طائفة: يغيب القمر قبل أن تطلع الشمس، فتراضوا برجل جعلوه حكما، فقال واحد منهم: إن قومي يبغون علي، فقال الحكم: إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر» . فذهبت مثلا، ومن المعلوم أن قول القائل:«إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر» إذا أخذ على حقيقته من غير نظر إلى القرائن المنوطة به والأسباب التي قيل من أجلها لا يعطي من المعنى ما قد أعطاه المثل، وذلك أن المثل له مقدمات وأسباب قد عرفت، وصارت مشهورة بين الناس معلومة عندهم، وحيث كان الأمر كذلك جاز إيراد هذه اللفظات في التعبير عن المعنى المراد، ولولا تلك المقدمات المعلومة والأسباب المعروفة، لما فهم من قول القائل:«إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر» ما ذكرناه من المعنى المقصود، بل ما كان يفهم من هذا القول معنى مفيد، لأن البغي هو الظلم، والقمر ليس من شأنه أن يظلم أحدا، فكان يصير معنى المثل: إن كان يظلمك قومك لا يظلمك القمر، وهذا كلام مختل المعنى، ليس بمستقيم، فلما كانت الأمثال كالرموز والإشارات التي يلوّح بها على المعاني تلويحا