وسئلت عن ذلك فقلت: لا عجب؛ لأن المقامات مدارها جميعها على حكاية تخرج إلى مخلص. وأما المكاتبات فإنها بحر لا ساحل له؛ لأن المعاني تتجدّد فيها بتجدّد حوادث الأيام، وهي متجددة على عدد الأنفاس، ألا ترى أنه إذا خطب الكاتب المفلق عن دولة من الدّول الواسعة التي يكون لسلطانها سيف مشهور، وسعي مذكور، ومكث على ذلك برهة يسيرة لا تبلغ عشر سنين، فإنه يدوّن عنه من المكاتبات ما يزيد على عشرة أجزاء، كل جزء منها أكبر من مقامات الحريري حجما؛ لأنه إذا كتب في كل يوم كتابا واحدا اجتمع من كتبه أكثر من هذه العدة المشار إليها، وإذا نخلت وغربلت واختير الأجود منها إذ تكون كلها جيدة فيخلص منها النصف، وهو خمسة أجزاء، والله يعلم ما اشتملت عليه من الغرائب والعجائب، وما حصل في ضمنها من المعاني المبتدعة، على أن الحريري قد كتب في أثناء مقاماته رقاعا في مواضع عدة، فجاء بها منحطّة عن كلامه في حكاية المقامات، لا، بل جاء بالغثّ البارد الذي لا نسبة له إلى باقي كلامه فيها، وله أيضا كتابة أشياء خارجة عن المقامات، وإذا وقف عليها أقسم أن قائل هذه ليس قائل هذه؛ لما بينهما من التفاوت البعيد.
وبلغني عن الشيخ أبي محمد [عبد الله بن أحمد] بن الخشاب النحوي رحمه الله أنه كان يقول: ابن الحريريّ رجل مقامات: أي أنه لم يحسن من الكلام المنثور سواها، وإن أتى بغيرها لا يقول شيئا.
فانظر أيها المتأمل إلى هذا التفاوت في الصناعة الواحدة من الكلام المنثور؛ ومن أجل ذلك قيل: شيئان لا نهاية لهما: البيان، والجمال.
وعلى هذا فإذا ركب الله تعالى في الإنسان طبعا قابلا لهذا الفن فيفتقر حينئذ إلى ثمانية أنواع من الآلات.