ألا ترى إلى حسن هذا اللفظ وصقالته، وتدبيج أجزائه، ومعناه مع ذلك ليس مدانيا له ولا مقاربا، فإنه إنما هو لما فرغنا من الحج ركبنا الطريق راجعين وتحدثنا على ظهور الإبل، ولهذا نظائر شريفة الألفاظ خسيسة المعاني.
فالجواب عن ذلك أنا نقول: هذا الموضع قد سبق إلى التشبث به من لم ينعم النظر فيه، ولا رأى ما رآه القوم، وإنما ذلك لجفاء طبع الناظر، وعدم معرفته، وهو أن في قول هذا الشاعر «كل حاجة» مما يستفيد منه أهل النسيب والرقة والأهواء والمقة ما لا يستفيد غيرهم، ولا يشاركهم فيه من ليس منهم، ألا ترى أن حوائج منى أشياء كثيرة: فمنها التلاقي، ومنها التشاكي، ومنها التخلي للاجتماع، إلى غير ذلك مما هو تال له ومعقود الكون به، فكأنّ الشاعر صانع عن هذا الموضع الذي أومأ له وعقد غرضه عليه بقوله في آخر البيت «ومسّح بالأركان من هو ماسح» أي: إنما كانت حوائجنا التي قضيناها وآرابنا التي بلغناها من هذا النحو الذي هو مسح الأركان وما هو لاحق به وجار في القرية من الله مجراه: أي لم نتعدّ هذا القدر المذكور إلى ما يحتمله أول البيت من التعريض الجاري مجرى التصريح، وأما البيت الثاني فإن فيه:«أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا» وفي هذا ما نذكره لتعجب به وبمن عجب منه ووضع من معناه، وذلك أنه لو قال أخذنا في أحاديثنا أو نحو ذلك لكان فيه ما يكبره أهل النسيب؛ فإنه قد شاع عنهم واتّسع في محاوراتهم علو قدر الحديث بين الإلفين والجذل بجمع شمل المتواصلين، ألا ترى إلى قول بعضهم:
وحديثها يا سعد عنها فزدتني ... جنونا فزدني من حديثك يا سعد
وقول الآخر:
وحديثها السّحر الحلال لو انّه ... لم يجن قتل المسلم المتحرّز
فإذا كان قدر الحديث عندهم على ما ترى فكيف به إذا قيّده بقوله: «أخذنا