للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بعضه؛ لأنه احتاج في مقاولة خصوم موسى عليه السلام أن يسلك معهم طريق الإنصاف والملاطفة في القول، ويأتيهم من جهة المناصحة، ليكون أدعى إلى سكونهم إليه؛ فجاء بما علم أنه أقرب إلى تسليمهم لقوله، وأدخل في تصديقهم إياه، فقال: وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم

وهو كلام المنصف في مقابلة غير المشتطّ، وذلك أنه حين فرضه صادقا فقد أثبت أنه صادق في جميع ما يعد به، لكنه أردف بقوله: يصبكم بعض الذي يعدكم

ليهضمه بعض حقه في ظاهر الكلام، فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه حقه وافيا، فضلا عن أن يتعصّب له، وتقديم الكاذب على الصادق من هذا القبيل؛ كأنه برطلهم في صدر الكلام بما يزعمونه؛ لئلا ينفروا منه، وكذلك قوله في آخر الآية: إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب

أي: هو على الهدى، ولو كان مسرفا كذابا لما هداه الله للنبوّة، ولا عضّده بالبينات، وفي هذا الكلام من خداع الخصم واستدراجه ما لا خفاء به، وقد تضمن من اللطائف الدقيقة ما إذا تأملته حقّ التأمل أعطيته حقه من الوصف.

ومما يجري على هذا الأسلوب قوله تعالى: واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا. إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا.

يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا، يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا. يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا

هذا كلام يهزّ أعطاف السامعين، وفيه من الفوائد ما أذكره، وهو لما أراد إبراهيم عليه السلام أن ينصح أباه ويعظه وينقذه مما كان متورّطا فيه من الخطأ العظيم الذي عصى به أمر العقل؛ رتّب الكلام معه في أحسن نظام، مع استعمال المجاملة واللطف والأدب الحميد والخلق الحسن، مستنصحا في ذلك بنصيحة ربه، وذاك أنه طلب منه أولا العلّة في خطيئته طلب منبّه على تماديه موقظ من غفلته؛ لأن المعبود لو كان حيّا مميزا سميعا بصيرا مقتدرا على الثواب والعقاب إلا أنه بعض الخلق يستخفّ عقل من أهّله للعبادة ووصفه بالربوبية، ولو كان أشرف الخلائق كالملائكة والنبيين، فكيف بمن جعل المعبود جمادا لا يسمع ولا يبصر، يعني به الصنم، ثم ثنّى ذلك بدعوته إلى الحق مترفّقا به، فلم يسم أباه

<<  <  ج: ص:  >  >>