بغال الطاحون فختنه ولم يؤذه، ولا فرق بين أن تكون هذه الواقعة في بلد نعرفه أو في بلد لا نعرفه، ولو كانت بأقصى المشرق أو بأقصى المغرب لم يكن ذلك قدحا في غرابتها، وأما أن تذكر أنها كانت بالجزيرة العمرية في الحارة الفلانية في طاحون بني فلان، وكان زمن الملك فلان، فإن مثل هذا كله تطويل لا حاجة إليه، والمعنى المقصود يفهم بدونه.
فاعلم أيها الناظر في كتابي هذا أن التطويل هو زيادات الألفاظ في الدلالة على المعاني، ومهما أمكنك حذف شيء من اللفظ في الدلالة على معنى من المعاني فإن ذلك اللفظ هو التطويل بعينه.
وأما الإيجاز فقد عرفتك أنه دلالة اللفظ على المعنى، من غير أن يزيد عليه.
وهو ينقسم قسمين: أحدهما: الإيجاز بالحذف، وهو ما يحذف منه المفرد، والجملة؛ لدلالة فحوى الكلام على المحذوف، ولا يكون إلا فيما زاد معناه على لفظه؛ والقسم الآخر: ما لا يحذف منه شيء، وهو ضربان: أحدهما: مأساوي لفظه معناه، ويسمى التقدير، والآخر ما زاد معناه على لفظه، ويسمى القصر.
واعلم أن القسم الأول الذي هو الإيجاز بالحذف يتنبه له من غير كبير كلفه في استخراجه؛ لمكان المحذوف منه.
وأما القسم الثاني فإن التنبه له عسر؛ لأنه يحتاج إلى فضل تأمل، وطول فكرة؛ لخفاء ما يستدل عليه، ولا يستنبط ذلك إلا من رست قدمه في ممارسة علم البيان، وصار له خليفة وملكة، ولم أجد أحدا علّم هذين القسمين بعلامة، ولا قيّدهما بقيد، وقد أشرت إلى ذلك فيما يأتي من هذا الباب عند تفصيل أمثلتهما فليؤخذ من هناك.
فإن قيل: إن هذا التقسيم الذي قسمته في المحذوف وغير المحذوف ليس بصحيح؛ لأن المعاني ليس أجساما كالألفاظ حتى يصحّ التقدير بينهما، ثم لو سلمت جواز التقدير في المساواة لم أسلّم جواز الزيادة، فليس لقائل أن يقول: هذا المعنى زائد على هذا اللفظ؛ لأنه إن قال ذلك قيل: فمن أين فهمت تلك الزيادة الخارجة عن اللفظ، وقد علم أن الألفاظ إنما وضعت للدلالة على إفهام المعاني،