وقد تقدم القول أن الإيجاز بالقصر يكون فيما تضمن لفظه محتملات كثيرة، وهذا البيت من ذلك القبيل، ولا أعلم أن شاعرا قديما ولا حديثا أتى بمثله، وقد أخذه أبو تمام فأحسن في أخذه، وهو:
وظلمت نفسك طالبا إنصافها ... فعجبت من مظلومة لم تظلم
ففاز في بيته هذا بالمقابلة بين الضدين في الظلم والإنصاف، ثم قال:«فعجبت من مظلومة لم تظلم» وهذا أحسن من الأول، ومعنى قوله:«ظلمت نفسك طالبا إنصافها» أي: أنك أكرهتها على مشاقّ الأمور وإذا فعلت ذلك فقد ظلمتها، ثم إنك مع ظلمك إياها قد أنصفتها؛ لأنك جلبت إليها أشياء حسنة تكسبها ذكرا جميلا ومجدا مؤثّلا، فأنت منصف لها في صورة ظالم، وكذلك قوله:«فعجبت من مظلومة لم تظلم» أي أنك ظلمتها وما ظلمتها لأن ظلمك إياها أدّى إلى ما هو جميل حسن.
وهذا القدر في الأمثلة كاف في هذا الباب.
القسم الآخر من الضّرب الثاني؛ في الإيجاز بالقصر وهو الذي لا يمكن التعبير عن ألفاظه بألفاظ أخرى مثلها وفي عدتها، وهو أعلى طبقات الإيجاز مكانا، وأعوزها إمكانا، وإذا وجد في كلام بعض البلغاء فإنما يوجد شاذا نادرا.
فمن ذلك ما ورد في القرآن الكريم؛ كقوله تعالى: ولكم في القصاص حياة
فإنه قوله تعالى: القصاص حياة
لا يمكن التعبير عنه إلا بألفاظ كثيرة، لأن معناه أنه إذا قتل القاتل امتنع غيره عن القتل؛ فأوجب ذلك حياة للناس، ولا يلتفت إلى ما ورد عن العرب من قولهم: القتل أنفى للقتل؛ فإن من لا يعلم يظن أن هذا على وزن الآية، وليس كذلك، بل بينهما فرق من ثلاثة أوجه: الأول: أن (القصاص حياة) لفظتان، و «القتل أنفى للقتل» ثلاثة ألفاظ؛ الوجه الثاني: أن في قولهم «القتل أنفى للقتل» تكريرا ليس في الآية؛ الثالث: أنه ليس كل قتل نافيا للقتل؛ إلا إذا كان على حكم القصاص.
وقد صاغ أبو تمام هذا الوارد عن العرب في بيت من شعره، فقال «١» :