والبلاغة، ويكفي في بطلانه كتاب الله تعالى؛ فإنه لم يجعل لخواصّ الناس فقط، وإنما جعل لعوامهم وخواصّهم، وأكثره لا بل جميعه مفهوم الألفاظ للعوام، إلا كلمات معدودة، وهي التي تسمى غريب القرآن، وقد تقدم الكلام على ذلك في المقالة الأولى المختصة بالألفاظ، وعلى هذا فينبغي أن تكون الكتب جميعها مما يقرأ على عوامّ الناس وخواصهم ذات ألفاظ سهلة مفهومة، وكذلك الأشعار والخطب، ومن ذهب إلى غير ذلك فإنه بنجوة عن هذا الفن، وعلى هذا فإن الإطناب لا يختص به عوام الناس، وإنما هو للخواصّ كما هو للعوام. وسأبين حقيقته في كتابي هذا، وأحقق القول فيه بحيث تزول الشبهة التي خبط أرباب علم البيان من أجلها، وقالوا أقوالا لا تعرب عن فائدة.
والذي عندي فيه أنه إذا رجعنا إلى الأسماء واشتقاقها وجدنا هذا الاسم مناسبا لمسماه، وهو في أصل اللغة مأخوذ من أطنب في الشيء إذا بالغ فيه، ويقال:
أطنبت الريح؛ إذا اشتدّت في هبوبها، وأطنب في السير؛ إذا اشتد فيه، وعلى هذا فإن حملناه على مقتضى مسماه كان معناه المبالغة في إيراد المعاني، وهذا لا يختص بنوع واحد من أنواع علم البيان، وإنما يوجد فيها جميعها؛ إذ ما من نوع منها إلا ويمكن المبالغة فيه، وإذا كان الأمر كذلك فينبغي أن يفرد هذا النوع من بينها، ولا يتحقق إفراده الا بذكر حدّه الدال على حقيقته.
والذي يحدّ به أن يقال: هو زيادة اللفظ على المعنى لفائدة؛ فهذا حدّه الذي يميزه عن التطويل؛ إذ التطويل هو: زيادة اللفظ عن المعنى لغير فائدة، وأما التكرير فإنه: دلالة على المعنى مردّدا، كقولك لمن تستدعيه: أسرع أسرع؛ فإن المعنى مردّد واللفظ واحد، وسيرد بيان ذلك مفصّلا في بابه بعد باب الإطناب بعضها بعضا؛ وإذا كان التكرير هو إيراد المعنى مرددا فمنه ما يأتي لفائدة ومنه ما يأتي لغير فائدة؛ فأما الذي يأتي لفائدة «١» فإنه جزء من الإطناب وهو أخص منه؛ فيقال حينئذ: إن كل تكرير يأتي لفائدة فهو إطناب وليس كل إطناب تكريرا يأتي لفائدة،