تتكلم بشيء وأنت تريد غيره؛ فيكون الذي تكلمت به دالا على ما تكلمت به وعلى غيره، وإذا أخرجت الحقيقة عن أن يكون لها شركة في الدلالة لم يكن الذي تكلمت به دالا على ما تكلمت به، وهذا محال؛ فتحقق حينئذ أن الكناية أن تتكلم بالحقيقة وأنت تريد المجاز، وهذا الكلام في حقيقة الدليل على تحقيق أمر الكناية لم يكن لأحد فيه قول سابق.
واعلم أن الكناية مشتقة من الستر، يقال: كنيت الشيء؛ إذا سترته، وأجري هذا الحكم في الألفاظ التي يستر فيها المجاز بالحقيقة؛ فتكون دالة على الساتر وعلى المستور معا، ألا ترى إلى قوله تعالى: أو لامستم النساء*
فإنه إن حمل على الجماع كان كناية؛ لأنه ستر الجماع بلفظ اللمس الذي حقيقته مصافحة الجسد الجسد، وإن حمل على الملامسة التي هي مصافحة الجسد الجسد كان حقيقة، ولم يكن كناية، وكلاهما يتمّ به المعنى، وقد تأولت الكناية بغير هذا، وهي أنها مأخوذة من الكنية التي يقال فيها: أبو فلان، فإنا إذا نادينا رجلا اسمه عبد الله وله ولد اسمه محمد فقلنا: يا أبا محمد، كان ذلك مثل قولنا: يا عبد الله؛ فإن شئنا ناديناه بهذا، وإن شئنا ناديناه بهذا، وكلاهما واقع عليه، وكذلك يجري الحكم في الكناية، فإنا إذا شئنا حملناها على جانب المجاز، وإذا شئنا حملناها على الحقيقة، إلا أنه لا بدّ من الوصف لجامع بينهما، لئلا يلحق بالكناية ما ليس منها، ألا ترى إلى قوله تعالى: إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة
فكنى بذلك عن النساء، والوصف الجامع بينهما هو التأنيث، ولولا ذلك لقيل في مثل هذا الموضع: إن أخي له تسع وتسعون كبشا ولي كبش واحد، وقيل: هذه كناية عن النساء، ومن أجل ذلك لم يلتفت إلى تأويل من تأول قوله تعالى: وثيابك فطهر
أنه أراد بالثياب القلب، على حكم الكناية؛ لأنه ليس بين الثياب والقلب وصف «١» جامع، ولو كان بينهما وصف جامع لكان التأويل صحيحا.