للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد رأيت جماعة من أئمة الفقه لا يحققون أمر الكناية، وإذا سئلوا عنها عبروا عنها بالمجاز، وليس الأمر كذلك، وبينهما وصف جامع، كهذه الآية وما جرى مجراها، فإنه يجوز حمل الماء على المطر النازل من السماء، وعلى العلم، وكذلك يجوز حمل الأودية على مهابط الأرض، وعلى القلوب، وهكذا يجوز حمل الزّبد على الغثاء الرابي الذي تقذفه السيول، وعلى الضلال، وليس في أقسام المجاز شيء يجوز حمله على الطرفين معا سوى الكناية.

وبلغني عن الفراء النحوي أنه ذكر في تفسيره آية، وزعم أنها كناية، وهي قوله تعالى: وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال

فقال: إن الجبال كناية عن أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما جاء به من الآيات، وهذه الآية من باب الاستعارة، لا من باب الكناية؛ لأن الكناية لا تكون إلا فيما جاز حمله على جانبي المجاز والحقيقة، والجبال ههنا لا يصح بها المعنى إلا إذا حملت على جانب المجاز خاصة؛ لأن مكر أولئك لم يكن لتزول منه جبال الأرض؛ فإن ذلك محال.

وأما ما ورد منها في الأخبار النبوية فقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنّه كانت امرأة فيمن كان من قبلنا، وكان لها ابن عمّ يحبّها، فراودها عن نفسها، فامتنعت عليه، حتى إذا أصابتها شدّة فجاءت إليه تسأله، فراودها، فمكنته من نفسها؛ فلما قعد منها مقعد الرجل من المرأة قالت له: لا يحلّ لك أن تفضّ الخاتم إلا بحقه» فقام عنها وتركها، وهذه كناية واقعة في موقعها.

ومن ذلك أيضا قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «رويدك سوقك بالقوارير» يريد بذلك النساء، فكنى عنهنّ بالقوارير، وذاك أنه كان في بعض أسفاره وغلام أسود اسمه أنجشة يحدو، فقال له: «يا أنجشة، رويدك سوقك بالقوارير» وهذه كناية لطيفة.

وكذلك ورد حديث الحديبية، وذاك أنه لما نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الركية جاءه بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من أهل تهامة، فقال: تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا عداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت، وهذه كناية عن النساء والصبيان، والعوذ: جنع عائذ،

<<  <  ج: ص:  >  >>