وكذلك فعل الحريري في مقاماته؛ فإنه ذكر في الأحاجيّ التي جعلها على حكم الفتاوي كناية ومغالطة معنوية، وظن أنهما من الأحاجيّ الملغزة، كقوله:
أيحلّ للصائم أن يأكل نهارا، والنهار: من الأسماء المشتركة بين النهار الذي هو ضد الليل وبين فرخ الحبارى؛ فإنه يسمى نهارا، وإذا كان من الأسماء المشتركة صار من باب المغالطات المعنوية، لا من باب الأحاجيّ، والإلغاز شيء منفصل عن ذلك كله، ولو كان من جملته لما قيل: لغز، وأحجيّة، وإنما قيل: كناية، وتعريض، أو مغالطة، ولكن وجد من الكلام ما يطلق عليه الكناية، ومنه ما يطلق عليه التعريض، ومنه ما يطلق عليه المغالطة، ومنه شيء آخر خارج عن ذلك؛ فجعل لغزا وأحجية.
وكنت قدّمت القول بأن الكناية هي اللفظ الدال على جانب الحقيقة وعلى جانب المجاز، فهو يحمل عليهما معا، وأن التعريض هو ما يفهم من عرض اللفظ لا من دلالته عليه حقيقة ولا مجازا، وأن المغالطة هي التي تطلق ويراد بها شيئان:
أحدهما دلالة اللفظ على معنيين بالاشتراك الوضعي، والآخر دلالة اللفظ على المعنى ونقيضه.
وأما اللغز والأحجية فإنهما شيء واحد، وهو: كل معنى يستخرج بالحدس والحزر، لا بدلالة اللفظ عليه حقيقة ولا مجازا، ويفهم من عرضه؛ لأن قول القائل في الضرس:
ما إن رأيت له شخصا فمذ وقعت ... عيني عليه افترقنا فرقة الأبد
لا يدل على أنه الضرس، لا من طريق الحقيقة، ولا من طريق المجاز، ولا من طريق المفهوم، وإنما هو شيء يحدس ويحزر، والخواطر تختلف في الإسراع والإبطاء عند عثورها عليه.