قلت في الجواب: إن الغزل رقة محضة، والألفاظ التي تنظم في الحوادث المشار إليها من فحل الكلام ومتين القول، وهي ضدّ الغزل، وأيضا فإن الأسماع تكون متطلعة إلى ما يقال في تلك الحوادث، والابتداء بالخوض في ذكرها، لا الابتداء بالغزل؛ إذ المهم واجب التقديم.
ومن أدب هذا النوع ألّا يذكر الشاعر في افتتاح قصيدة المديح ما يتطير منه، وهذا يرجع إلى أدب النفس، لا إلى أدب الدرس؛ فينبغي أن يحترز منه في مواضعه، كوصف الديار بالدّثور والمنازل بالعفاء، وغير ذلك من تشتت الآلاف وذم الزمان، لا سيما إذا كان في التهاني؛ فإنه يكون أشد قبحا، وإنما يستعمل ذلك في الخطوب النازلة والنوائب الحادثة، ومتى كان الكلام في المديح مفتتحا بشيء من ذلك تطيّر منه سامعه.
وإنما خصت الابتداءات بالاختيار لأنها أول ما يطرق السمع من الكلام؛ فإذا كان الابتداء لائقا بالمعنى الوارد بعده توفّرت الدواعي على استماعه، ويكفيك من هذا الباب الابتداءات الواردة في القرآن، كالتحميدات المفتتح بها أوائل السور، وكذلك الابتداءات بالنداء، كقوله تعالى في مفتتح سورة النساء: يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة
وكقوله تعالى في أول سورة الحج: يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم
فإن هذا الابتداء مما يوقظ السامعين للإصغاء إليه، وكذلك الابتداءات بالحروف، كقوله تعالى: ألم*
وطس
وحم*
وغير ذلك؛ فإن هذا أيضا مما يبعث على الاستماع إليه؛ لأنه يقرع السمع شيء غريب ليس له بمثله عادة؛ فيكون ذلك سببا للتطلع نحوه والإصغاء إليه.