للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تمام، فقال: إنما يعتب على واحد وأنت الناس جميعا، قال: من أين هذه يا أبا تمام؟ قال: من قول الحاذق أبي نواس، وأنشده البيت، وهذه الحكاية عندي موضوعة؛ لأن أبا تمام كان عارفا بالشعر، حتى إنه قال: لم أنظم شعرا حتى حفظت سبعة عشر ديوانا للنساء خاصة دون الرجال، وما كان يخفى عنه أن هذا المعنى ليس لأبي نواس، وإنما هو مأخوذ من قول جرير:

إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت النّاس كلّهم عضابا

إلا أنّ أبا نواس زاده زيادة حسنة، وذاك أن جريرا جعل الناس كلهم بني تميم، وأبا نواس جعل العالم كله في واحد، وذلك أبلغ.

ومما ينتظم في هذا السلك قول الفرزدق:

علام تلفّتين وأنت تحتي ... وخير النّاس كلّهم أمامي

متى تأتي الرّصافة تستريحي ... من الأنساع والدّبر الدّوامي

أخذه أبو نواس فصار أملك به، وأحسن فيه غاية الإحسان، فقال:

وإذا المطيّ بنا بلغن محمّدا ... فظهورهنّ على الرّجال حرام

فالفرزدق قال: «تستريحي من الأنساع والدبر الدوامي» وليس استراحتها بمانعة من معاودة إتعابها مرة أخرى: وأما أبو نواس فإنه حرّم ظهورهن على الرجال: أي أنها تعفى من السفر إعفاء مستمرّا، ولا شك أن أبا نواس لم يتنبه لهذه الزيادة إلا من فعل العرب في السّائبة والبحيرة.

وعلى هذا الأسلوب ورد قول المتنبي:

وملمومة زرد ثوبها ... ولكنّه بالقنا مخمل

أخذه من أبي نواس في قوله:

أمام خميس أرجوان كأنّه ... قميص محوك من قنا وجياد

فزاد أبو الطيب زيادة صار بها أحق من أبي نواس بهذا المعنى.

<<  <  ج: ص:  >  >>