وأعجب ما في ذلك أن تكون الألفاظ المفردة التي تركبت منها المركبة واضحة كلها، وإذا نظر إليها مع التركيب احتاجت إلى استنباط وتفسير، وهذا لا يختص به القرآن وحده، بل في الأخبار النبوية والأشعار والخطب والمكاتبات كثير من ذلك.
وسأورد ههنا منه شيئا؛ فأقول: قد ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحّون» وهذا الكلام مفهومة مفردات ألفاظه، لأن الصوم والفطر والأضحى مفهوم كله، وإذا سمع هذا الخبر من غير فكرة قيل: علمنا أن صومنا يوم نصوم، وفطرنا يوم نفطر، وأضحانا يوم نضحّي، فما الذي أعلمنا به مما لم نعلمه؟ وإذا أمعن الناظر نظره فيه علم أن معناه يحتاج إلى استنباط، والمراد به أن إذا اجتمع الناس على أن أول شهر رمضان يوم كذا، ولم يكن ذلك اليوم أوله، فإن الصوم صحيح، وأوله هو ذلك اليوم الذي اجتمع الناس إليه، وكذا يقال في يوم الفطر، ويوم الأضحى.
ولهذا الخبر المشار إليه أشباه كثيرة تفهم معاني ألفاظها المفردة، وإذا تركبت تحتاج في فهمها إلى استنباط.
وأما ما ورد من ذلك شعرا فكقول أبي تمام:
ولهت فأظلم كلّ شيء دونها ... وأضاء منها كلّ شيء مظلم «١»
فإن الوله والظلمة والإضاءة كل ذلك مفهوم المعنى، لكن البيت بجملته يحتاج في فهمه إلى استنباط، والمراد به أنها ولهت فأظلم ما بيني وبينها، لما نالني من الجزع لولهها؛ كما يقول الجازع: أظلمت الأرض علي: أي أني صرت كالأعمى الذي لا يبصر، وأما قوله:«وأضاء منها كل شيء مظلم» أي وضح لي منها ما كان مستترا عني من حبها إياي.