للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ثمَّ لما نَبَغت المعتزلةُ بعد ظهور فرقة الخوارج، استظهرت صحة ذاك الأصل الذي استندت إليه الخوارج في نفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة -وهو دعوى استحالة التفاوت في الحقيقة الشرعية للإيمان- لكنّها أرادت لمَّا رأت تنادي أهلِ السُّنَّة فيما بينهم بإنكار بدعة الخوارج، والتشنيع عليهم، ومخالفتهم للضرورة الشرعية المستقرة بدلائل الكتاب والسُّنة، والإجماع على عدم تكفير مرتكب الكبيرة، ورأت أَيضًا مخالفتهم للضرورةِ العقلية من مساواتهم بين المستحق للعذاب الأليم

وهو الكافر، وبين من هو دون ذلك وهو مرتكب الكبيرة عندهم (١) = أرادت الجمع بين الضرورتين: العقلية التي تقضي باستحالة التفاوت و الضرورةِ الشَّرعيةِ التى تدل على عدم استحقاق مرتكب الكبيرة لاسم الكفر، فتكايست لذلك لكنَّها في الوقت ذاته تناقضت من حيثُ أَرادت الفرار من التناقض، وابتدعت القول (بالمنزلة بين المنزلتين) والتي حقيقتها نفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة وفي الوقت ذاته عدم تكفيره والذهاب إلى إطلاق اسم ديانة عليه، وهي"الفسق".

وقد حكى قولَهم أَحدُ أعلامهم، وهو الجاحظ حيث قال: (قالت المعتزلة: هو فاسِق (٢) كما سمَّاه نصًّا، ولا نُسمِّيه كافرًا، فيلزمنا أن نلزمه أحكام الكُفَّار، وليس ذلك حُكمَه، ولا نقول: مؤمن، فيلزمنا ولايته ومدحه، وإيجاب الثواب له، وقد أخبرنا الله أنَّه مشؤوم من أهل النَّار، فنزعم أنّه في النار مع الكافر، وأنّه لا يجوز أَن يكون في الجنَّة مع المؤمن) (٣)

وقال القاضي عبدالجبار: ( ... صاحب الكبيرة له اسم بين


(١) انظر: "شرح الأصول الخمسة" للقاضي عبد الجبار الهمداني (٧١٢)
(٢) أي: مرتكب الكبيرة
(٣) "رسالة الحكمين"للجاحظ (٣٨٠ - ضمن الرسائل السِّياسية)

<<  <   >  >>