للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يقول شيخُ الإسلام كاشفًا عن منشأ الغَلَطِ عند المتكلِّمين: (وإنما أصل ضلالِهم أَنَّهم رأوا الشيءَ قبل وجُودِهِ يُعلمُ، ويُرادُ، ويُميَّزُ بين المَقدورِ عليه والمَعجوز عنه. ونحو ذلك = فقالوا: لو لم يكن ثابتًا لَمَا كان كذلك كما أنَّا نتكلم في حقائق الأشياء التي هي ماهيتها مع قطع النظر عن وجودها في الخارج، فنتخيَّل الغلطَ: أنّ هذه الحقائقَ والماهياتِ أمورٌ ثابتةٌ في الخارج.

والتحقيق أَنَّ ذلك كُلَّه أَمرٌ موجودٌ وثابتٌ في الذِّهنِ لا في الخارج عن الذِّهنِ. والمُقَدَّرُ في الأَذهانِ قد يكونُ أوسعَ من الموجود في الأَعيان (١) .

فمسمى"الإيمان" في الواقع ليس له قَدرٌ وماهيَّةٌ يَشْتَرِك المُكلَّفون في الاتصاف بها، بل هم يتفاوتون في هذه الحقيقة قوةً وضعفًا وتحقيقًا.

ولذا كان المُحقِّقون من أَهلِ العلم -كالنَّووي - يذهبون إلى وقوع التَّفاوت وبطلان الاشتراك. قال النَّووي - رحمه الله -: (فالأَظهرُ -والله أعلم- أنَّ نفسَ التَّصديق يزيدُ بكثرةِ النَّظَرِ، وتظاهُرِ الأَدلَّةِ، ولهذا يكون إيمانُ الصدّيقين أَقوى من إِيمانِ غيرِهم بحيثُ لا تعتريهم شُبْهةٌ، ولا يتزلزلُ إيمانُهم بعارض، بل لاتزال قلوبُهم مُنْشَرحةً نيَّرةً وإن اختلفت عليهم الأحوالُ=وأما غيرهم من المؤلفة قلوبهم ونحوهم فليسوا كذلك= فهذا لا يمكن إنكاره ولا يشككُّ عاقلٌ في أنّ نفسَ تصديق أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - لايساوي تصديقَ آحادِ النَّاس ... ) (٢)


(١) "الرَّد على المنطقيين" (٦٤ - ٦٥) وبسبب عدم التفريق بين الوجود الذهني والعيني وقع المتكلمون في الضَّلال، وذلك في مسائل عقدية أُخرى كغلطهم في باب صفات الله تعالى. ولذا ترى شيخ الإسلام كثير اللَّهج ببيان فساد التسوية بين الوجود العلمي والوجود العيني، انظر: على سبيل المثال: درء التعارض (٥/ ٩٠ - ٩١، ٩٤ - وما بعدها)، ومجموع الفتاوى (٢/ ١٥٦ - ١٥٩)
(٢) "شرح صحيح مسلم"للنَّووي (١/ ١٤٨ - ١٤٩)

<<  <   >  >>