للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فالغلطُ الدَّاخلُ على هؤلاء من جهة اعتبارهم الإيمان حقيقةً مُطلقة تقوم في أذهانهم وغفلوا أَنّ هذه الحقيقةَ في الخارج لا توجد إلَاّ مُتميِّزة ومُتَّصِفة، والتَّفَاضل إنما ينشأ في هذا الموجود المتحقق في الخارج، لا في أمر مطلق يقوم في الأَذْهَان. لذا يقول الإمام ابن تيميَّة - رحمه الله -: (وهؤلاء (١) منتهى نظرِهم أن يروا حقيقةً مطلقةً مجردةً، تقوم في أَنفُسهم فيقولون: الإيمان من حيث هو هو، والسُّجود من حيث هو هو، لا يجوز أن يتفاضل، ولا يجوز أن يختلف. و أَمثال ذلك. ولو اهتدوا لعلموا أنَّ الأمورَ الموجودة في الخارج عن الذّهن متميزة بخصائصها، وأنَّ الحقيقةَ المجردةَ المُطلقةَ، لاتكون إلَاّ في الذِّهنِ، وأنَّ النَّاس إذا تكلموا في التفاضل، والاختلاف فإنما تكلموا في تفاضل الأمور الموجودة واختلافها، لا في تفاضل أمرٍ مُطلق مجرد في الذِّهن لا وجود له في الخَارج) (٢)

وعلى سبيل التنزل مع المانعين من دخول التفاوت في الإيمان، فيقال: إنَّه يمكن وقوع التفاوت في حقيقة الإيمان وَفْقًا لما تقرر في المنطق، لا من جهة الحد، بل من جهة المتواطئ المُشَكِّك الذي يكون فيه نسبة هذا المعنى الكلي في بعض أفراده، أقوى، وأكمل من البعض الآخر؛ فالبياض مثلًا: معناه في الثَّلج، أَشدُّ منه في عَظْم العَاج، وكذلك الأَمرُ في الإيمان من جهةِ تحققِّ معناه في أَفرادهِ، قد يكون أكمل في بعض المؤمنين من البعض الآخر.

وهذا ما ذهب إليه محققو الأَشاعرة كالقاضي أبي بكر بن العربي - رحمه الله - فإنّه قال: (وظن جملة الأصحاب أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص؛ لأنَّه عَرَضٌ، وذَهَلوا أَنَّ الأعراض تدخلها الزِّيادةُ، والنُّقصان


(١) يعني: المتكلمين.
(٢) "مجموع الفتاوى" (٧/ ٥١٢)

<<  <   >  >>