للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وإن كان الدَّليلُ اليتيمُ على عِصْمتهِ، هو نَفْيُ السِّحرِ عنه؛ فهذا باطلٌ لأنَّ قولَهم هذا يستلزم الدَّور؛ إذ معنى ذلك أن يكون الدَّليلُ على عصمته من تضرّره بالسِّحر - صلى الله عليه وسلم - =هو امتناع السحر عليه. وهذا هو الدَّور بعينه.

ثم إنَّه يقال أَيضًا: إنَّ غاية ما لحقه - صلى الله عليه وسلم - من أذى السحر لا يعدو أَن يكون عَرَضًا من الأَعراض التي تعتري البشر، ومرض من الأمراض لم يتعد أثرُها الجوارح.

ومع جلاء هذه الحقيقة لمن جمع الرِّوايات وحقق فيها، إلَاّ أنّ العجبَ لا ينقضي حين ترى العلاّمةَ محمدَ رشيد رضا-عفا الله عنه- يغضّ الطَّرف عن حاصل تلك الرِّوايات، وعمّا رقمه أَهل العلم في بيان الحديث، ليعلن تأْبِّيه عمَّا قرّروه في ذلك قائلًا: (ونرى أَكثرَ العلماء قد اسْتقرَّ جوابهم على أَنَّ السِّحر الّذي وقع هو عبارةٌ عن التأثير في جِسْمه - صلى الله عليه وسلم - دون نَفْسِه الشَّريفة الزَّكيّة العلويَّة ... لكنَّ الرِّوايات كلَّها مُصرحةٌ بأنَّ تأثير السِّحرِ المزعوم كان في نفسه، وإِدراكه، وتصوّره صلوات الله وسلامه عليه، لا في جسَدِهِ .. وليعْلَم القُرَّاء أَن أَمثال هذه المشكلات في الرِّوايات لا يهتدي إلى تحقيق الحقِّ فيها إلَاّ الذي يُعطي عقله حُرِّية الاسْتقلال فيما قاله أَصنافُ العلماء ... ) (١)

و المُنْصِفُ سيحاكم الشيخ محمد رشيد إلى دعواه، وسيقيمُ البرهان أَن أَهل السُّنّة ومن تبعهم من أهل العلم قد أعطوا عقولهم حُرِّية الاستقلال في بحثهم لهذا الحديث، فلم يقعوا فريسة لتهاويل المنكرين فبرهانُ أَهل العلم على ما حرَّروه في هذه المسألة أنَّه قد جاء في الحديث قول عائشة رضي الله عنها: (سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى إنّه يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله)

فقولها: حتى إنّه ليفعل الشيء وما فعله، هو إخبار عمّا علمته من حاله وخبره - صلى الله عليه وسلم -، فالتخييل يقع في البصر لا في الإِدراك، وإدراكه - صلى الله عليه وسلم - ينفي وقوع ذلك ... منه، ومما يدلُّ على ذلك، ما جاء في الرِّواية الأُخرى -التي سيقت في أول البحث -: (حتى كان يرى أنه يأتي النساء و لا يأتيهن)

وقد جاء من مرسل سعيد بن المسيب وعروة بن الزُّبير: (سُحر النَّبيُّ حتى أنكر بَصَرَه) (٢)

فحصيلة هذه الرِّوايات لا تخرج في دلائلها عن أن يكون ما عرض له إمَّا - صلى الله عليه وسلم - مجرَّدُ تخييل عارضٍ، أَو خَاطرٍ طارئ، أنه قد جاء إلى عائشة وهو عالم أنه لم يجئها، وأنّ هذا الخاطر يعاوده على خلاف عادته (٣) .

و قد يَرْقى هذا الخاطرُ إلى الظنِّ وهذا الظن ليس مُطَّردًا، وإِنَّما في أَمر خاص من أُمُور الدُّنيا، وهو كونه كان يظن أنه يأتي أهله ولم يكن يفعل ذلك.

ولذا قال الحافظ ابن حجر: (وقد قال بعض العلماء: لا يلزم من أَنَّه كان يظن أنه فعل الشيء ولم يكن فعله أن يجزمَ بفعله ذلك وإِنَّما


(١) "المنار والأزهر" (١٠١)
(٢) أخرجه عبدالرزَّاق في "المصنَّف" كتاب "الطب" باب"النشرة" (١١/ ١٤ - رقم [١٩٧٦٤])، وانظر إكمال المعلم (٧/ ٨٧)
(٣) "الأنوار الكاشفة"للمُعلِّمي (٢٤٩)

<<  <   >  >>