ولا أَدري ما الّذي ألجأ الإمام ابن عاشور -غفر الله له - إلى ركوب الصَّعب والذّلول لينفي أَثر سحر لبيد، ومن تأمَّل الحديثِ دعاه هذا التأمّل إلى لَفْظِ أَلفاظ هذا التأويل وعدم قَبوله، وذلك للأَسباب التالية:
الأَّول: أَنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما شَعر بأثر السحر عليه دعا ربَّه فكان من دلائل استجابة الله له أن أرسل له ملكين، فكان مما ذكراه والنبي - صلى الله عليه وسلم - يسمع أَنه مطبوب، وأَنَّ علة ذلك سحرُ لَبِيْدٍ، فكان المرضُ الّذي أَصاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتَّبًا على ذلك السبب الذي صنعه لبيد وسرى أَثره بإرادة الله تعالى =فكيف يقال بعد ذلك: إن المرض كان مُصادفة ومقارنًا لما عَمِلَه لبيد!، ودعواه بأَنَّ ما رآه - صلى الله عليه وسلم - في الرُّؤيا من نصِّ المَلَكين على سبب مرضه لا يعتمد عليه؛ لكون الرُّؤيا جرت مجرى الرُّموز =لا برهان عليها، وسياق القِصَّة يُبطل ذلك. ومما يوضِّح أنَّ الرُّؤيا التي رآها النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تكن رموزًا بل هي جَليَّة:
الثَّاني: أنَّ الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - علم أَنَّ ربَّه أجاب دعاءه، وذلك بإخباره بعلَّة مرضه بواسطة الملكين اللَّذين أَخبراه بما صنع لبيد، ودليل استفادة النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذه الرُّؤيا علة مرضه =قوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة رضي الله عنها:(أَشعرت أَن الله قد أَفتاني، فيما اسْتفتيته) وهذا يكشف استفادة النبي - صلى الله عليه وسلم - من خَبر الملكين، وإِيقانه بأَنَّ الله أَجاب دعوته، وإلَاّ فما الجدوى من إخبار الله تعالى له - صلى الله عليه وسلم - بعمل لبيد الّذي قد منع الله أَثره، وترْكه سبحانه بيان ما هو أعظم، والحاجة إليه أَشد =وهو بيان سبب مرض نبيه - صلى الله عليه وسلم -؛ فانظر كيف قاد التنزيه البارد لجناب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - إلى الطعن في كمال علمه تعالى وحِكْمتِه، وتجهيل النبي - صلى الله عليه وسلم - في فَهْمِهِ وحُسن ظنِّه بربِّه، فمثل هؤلاء كمن رام أَن يبني قصرًا فهدم مِصْرًا!!
ثمَّ إنَّ الرُّؤيا لم تكن من قبيل الرّموز التي لا تفهم إلاّ له - صلى الله عليه وسلم -، وبرهان ذلك: