لينفى عنها إفادة اليقين، وأَمّا أخبار الآحاد=فهي المَرتع الخصب لظهور الطغيان الاعتزالي، فإنَّهم يردُّون السُّنن بحجّة ظنية ثبوتها فضلًا عن دلالتها. فكُتُبهم ترشحُ بنَفَس التعطيلِ لمدلولات تلك الأخبار، والرَّدِّ لها. وسيأتي -بإذن الله - ضرب الشَّواهد على ذلك.
ثُمَّ إنَّ أَقاويلهَم الدّالة على عدم اعتبار النصِّ حين يخُالفُ مَعقولاتهم برهان آخر على أوليّة العقل عند قيام التعارض.
وبذلك يُعلَم أَنّه لا مناص من ردِّ التّمحّلات التي تتسابق في تبرئة المُعتزلة بدعوى الإنصاف لهم (١)،فالإنصاف متى كان في موضعه فهو الواجب ديانةً، وإلاّ كان طَمْسًا للحقائق.
والإِنصاف حقيقةً الّذي يُلفت إليه: أَنَّ المعتزلة مع غلوِّها في الاعتداد بما ظنُّوه "معقولا"وضلالها وانحرافها في ذلك، إلَاّ أنّ أَصْلَ التعظيم والإجلال للشَّريعة والرِّسالة، وقصد التنزيه وإثبات الكمال للربِّ تبارك وتعالى، مطلبان سعى إليهما المعتزلة من حيث الجملة، مع فوات الحقِّ عليهم في كثير من مسائل الاعتقاد.
وبهذا يُعلم أَنَّ المستغربين الّذين رفعوا راية الدَّعوة إلى التمرُّد على النّص الشرعي وتجاوزه، وإن أظهروا الإشادة بالتيّار الاعتزالي لانحرافه في فهم حقيقة وظيفة "العقل"= إلَاّ أَنّهم في حقيقة الأمر أَظهروا الإشادة ليستتروا خلف هذا الأنموذج ويُظهروا لمن لا يعرف حقيقة مقاصدهم أنّهم إِنّمّا يستلهمون من ذات التاريخ الإسلامي وما نشأ فيه من حَرَكات وفِرق حادت عن الحق =ما زعموا أنَّه نواة للإبداع والتحديث، فيخفوا بهذا الاحتفاء الأنموذج الحقيقي الّذي وقعوا في تبعيَّته واجترار رجسه وآفاته.
هذا الأُنْموذج الباطن كامنٌ في الفكر الغربي الوثني.
وهذه الحقيقة لم يستطع كبارهم كتمها، فأَدونيس يُعلي من شأن الانحراف الاعتزالي لانعتاقه -نسْبيًّا- من سلطة الوحي، لكنّه مع ذلك كُلِّه يرتكسُ ليؤكد أَنَّ هذا الأنموذج لا يمُثِّل الأنموذج المرتضى الّذي
(١) قارِن ذلك بما جاء في كتاب "البعد الزَّماني والمكاني وأَثرهما في التعامل مع النَّصِّ الشَّرعي"لسعيد بوهراوة (٥٤)