وأمَّا الموقف الثاني: فقد ذهبت طائفة من المستغربين إلى ردِّ المعجزات. والباعث لهم على ذلك: تأثُّرُهم البيِّن بالمنهج الوَضعي الَّذي كان فتنةً لكثيرٍ من بني جلدتنا، و الَّذي ينطلِقُ أَساسًا من نَفي الغيبيات، واستبعاد كل ما لا يقع عليه الحسّ. إذْ رسَخَ في أَذهانهم أنّ أساس قيام الحضارة الغربيّة الكافرة لم يتحقق إلَاّ عند رَفْضِهم كلّ ما يتعدَّى الواقع الحسِّي، وأنّه لا يمكن لأَهل الإِسلام أن يلحقوا بركب الحضارة؛ إلاّ بالسَّير الحثيث على سَنن هؤلاء الوضعييين.
وقد أَبان عن عُمق هذا التأثر، وعن الانهزامية التي سَرَت في نفوس هؤلاء العصريّين؛ ((محمد فريد وجدي)) - أَحد الَّذين درجوا على تطويع الدَّلائل الشَّرعيَة لتوافق ما رَسَمه أُولئك الكفرة في صورة قوالب وقوانين علميّة بزعمهم- بقوله: (وُلِد العلم، وما زالَ يجاهد القوى التي كانت تساوره؛ حتّى تغلّب عليها. فدالت الدولة إليه في الأرض، فنَظَر نظرةً في الأديان، وسرى عليها أسلوبه، فقذف بها جملةً إلى عالم " الميثولوجيا"(١)، ثم أخذ يبحث في اشتقاق بعضها عن بعض، واتصال أساطيرها بعضها ببعض، فجعل من ذلك مجموعةً تُقرَأُ؛ لا لتُقدَّس تقديسًا؛ ولكن ليعرف الباحثون منها الصور الذهنية التي كان يستعبد لها الإنسان نفسه، ويقف على صيانتها جهودَه؛ غيرَ مدّخِرٍ في سبيلها روحَه ومالَه. وقد اتّصل الشرق الإسلامي بالغرب منذ أكثر من مائة سنة، فأخذ يرتشف من مناهله العلمية، ويقتبس من مدينته المادية، فوقف - فيما وقف عليه - على هذه " الميثولوجيا "، ووجد دينَه مائلًا فيها، فلم ينبس بكلمة؛ لأنه يرى الأمرَ أكبرَ من أن يحاولَه، ولكنّه استبطَن الإلحاد، مستيقنًا أنه مصير إخوانه كافّةً؛ متى وصلوا إلى درجته العلمية .. وقد نبغ