للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فأمَّا ما لا يُدركُ إلَّا عَقلًا =فكُلُّ قاعدةٍ في الدين تتقدَّمُ على العلمِ بكلامِ الله تعالى، ووجوبِ اتصافه بكونهِ صِدْقًا؛ إذِ السمعيَّاتُ تستندُ إلى كلامِ الله تعالى، وما يسبقُ وجوده في الترتيبِ ثُبوت الكلام وجوبًا، فيستحيلُ أن يكون مُدركه السمع.

وأمَّا ما لا يُدركُ إلَاّ سمعًا =فهو القضاءُ بوقوع ما يجوز في العقل وقوعه، ولا يجبُ أن يتقرر الحكم ثبوت الجائز ثبوته فيما غاب عنَّا إلَاّ بسمع ... ) (١)

فأنت ترى أنَّ هذا التقسيم من موارد الخلل فيه جَعْلُ ما كان إدراكُه مُختصًّا من تلك العقائد بالدَّلالة السّمعيّة =مقيَّدًا بتجويز العقل له، فإن لم يحصل التجويز لم يقع تصحيح ذلك المُدرك من ذلك الطريق!

ويقول الغزالي: ( ... أمّا ما قَضَى العَقْلُ باسْتحالتِهِ =فيَجِبُ فيه تأويلُ ما وَرَدَ السَّمْعُ به، ولا يُتصوَّرُ أَنْ يَشْتَمِلَ السَّمْعُ على قاطعٍ مُخالفٍ للعقولِ، وظَوَاهرُ أَحاديثِ التَّشبيه أَكثرها غيرُ صحيحةٍ، والصَّحيحُ منها ليس بقاطعٍ، بل هو قابل للتأويلِ) (٢)

وعلى وَفْق هذا القانون -أعني القول بأوليَّة العقل-درج كُلُّ من جاء من المتأخرين المتمعقلين على النُّصوص على اختلاف مَشاربهم وتفاوت منازلهم في الانحراف، فترى الشيخ محمد عبده يؤصل للإسلامِ أُصولًا، فيعدُّ الأصل الثّاني من الأصول التي قام عليها الإسلام ما ذكره بقوله: (الأصلُ الثَّاني للإِسلام: تقديمُ العقلِ على ظاهرِ الشَّرعِ عند التعارض. أَشْرَعُ إليك بذكر أَصلٍ يتبع هذا الأَصلَ المُتقدِّم قبل أن انتقل إلى غيره=اتّفق أهلُ المِلّةِ الإِسلاميَّةِ (٣) -إلاّ قليلًا ممن لا يُنظر إليه-


(١) "الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أُصول الاعتقاد" للجويني (٣٥٨ - ٣٦٠)
(٢) "الاقتصاد في الاعتقاد" لأبي حامد الغزالي (٢٧٢)
(٣) في حكايةِ هذا الاتِّفاقِ نَظَرٌ؛ فهي دعوى ساقها الشيخ محمد عبده مُرْسَلَةً دون أن يقيم عليها البرهان، وهو في الحقيقة إنَّما عَنى حكاية اتِّفاق المُخالفين لأهل السُّنَّة والجماعة من طوائف المُتكلِّمين وغيرهم، وهؤلاء ليسوا جميع أهل المِلَّةهذا أَمر، وأَمرٌ آخر، فإنَّ اتِّفاق المتكلِّمين على خصوص هذه مَسألة =لا يعتدُّ به مادام خارقًا لاتِّفاقِ أئمَّة السَّلف.

<<  <   >  >>