للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بالمقارنة بعلم العصور المُبكِّرة =هو تأكيده على مايمكن أَن نُطلق عليه اسم "المنهج التجريبي" ... الحقيقة أن هناك بعض المجالات التي يصعب استخدامه فيها مثلما نَستخدمه في الفيزياء. ففي علم الفلك مثلًا، لا يمكننا أَن نُعطي دفعة لكوكب في اتجاه آخر بعض الشيء، لنرى ما قد يحدث له نتيجة لهذه الدَّفعة. إذ أَنَّ الموضوعات الفَلَكيَّة بعيدة كُلّ البُعد عن متناولنا, ولا يَسَعنا إلَاّ أن نُلاحظها ونقوم بوصفها، كما أَنَّه يمكن لعلماء الفَلَك -في بعض الأحيان- أن يقوموا بخلق شروط في المعمل شبيهة بتلك التي تحدث على سطح الشمس أوالقمر .... ولكن هذا لا يُعَدُّ في حقيقة الأَمر تجربة فلكية حقيقية) (١)

وعلى هذا؛ فإنَّ إنكارَ تلك الحقائق وطرد قضية التجريب على كُلِّ علم سيوقِفُ عجلةَ التقدُّم، وستنحَسِرُ حركةُ الاكتشافات. وسيُنحَر الإبداعُ بمُدى المنهج الوضعي. ذلك أَنَّ التجربةَ تتّجه إلى قضايا جزئية؛ لكن الانتقال من الأعيان الجزئية إلى قانونٍ علميٍّ عامٍّ لا يتأتّى بالتجربة فقط؛ لأن الحسّ والتجربة يُثْبِتَان أمرًا محدودًا معيّنًا؛ لا أمرًا كليًّا.

وحتى يتم بناء القوانين الكلية على مثل هذه التجارب؛ فلا بدّ من إعمال الخيال العلمي لوضع الفروض (٢) وهذا ما تعامى المذهب الوضعي عنه، مما كان سببًا في توجيه النَّقد إليه مِن بعض أَنصار المدرسة نَفْسها (٣) .

فتحصّل من ذلك: أنه كما أن الحقائق العلمية لا يمكن أن تُحصَر في دائرة الحس والتجربة؛ فكذلك الحقائق الشرعية؛ فإنّ للشرعيات معاييرها التي تستند إليها، كما أن للطبعيات والعقليات معاييرها وأُسسها الخاصة بهما. والتسوية بينهما غلط، و خلط بين هويتين مختلفتين.

ثانيًا: إذا كان المتأثرون بِرهَجِ المنهج التجريبي لا يقبلون من الحقائق إلا ما قضى به الحسّ وأثبتتهُ التجربة؛ فإنه يلزمهم أن يثبتوا


(١) "الأُسس الفلسفيَة للفيزياء"لكارناب (٥٥ - ٥٦)
(٢) انظر: " المنطق الحديث ومناهج البحث " للدكتور محمود قاسم (١٥٣)
(٣) انظر: "حكمة الغرب"لبرتراند رسل (٢/ ٢٧٩ - ٢٨٠)

<<  <   >  >>