وفي تقرير ذلك يقول الإمام ابن القيِّم - رحمه الله -: (هذه الطَّريق من أَقوى الطُّرق وأَصحها، وأدلِّها ... وارتباط أَدلّة هذا الطَّريق بمدلولاتها، فإنّها جمعت بين دلالة الحسِّ والعقل، ودلالتها ضروريَّة بنفسها؛ ولهذا يُسمِّيها الله آياتٍ بيِّناتٍ، وليس في طُرُق الأَدلَّةِ أَوثق ولا أَقوى منها؛ فإنَّ انقلاب عصا تقلَّها اليد ثعبانًا عظيمًا يبتلع ما يَمرّ به ثُمَّ يعود عصا كما كانت =من أَدل الدّليل على وجود الصَّانع وحياته وقدرته وإرادته وعلمه بالكُلِّيات والجزئيات، وعلى رسالة الرَّسول، وعلى المبدأ والمعاد فكلُّ قواعد الدِّين في هذه العصا ..... وهكذا سائر آياته وآيات الأَنبياء .. )(١)
والمتأمل في هذا الاعتراض يجد أنه في حقيقته قد وجّه "ابنَ رشد" وكلَّ من جاء بعده إلى متكلمي الأشاعرة؛ ذلك أن الأشاعرة - ومَن تأثر بهم - يجعلون باب الآيات والبراهين الجارية على يد الرسل - عليه السلام - من جنس ما يأتي به السحرةُ والكهَنةُ، فالسَّاحرُ يجوز أن تجري على يديه من الخوارق كالتي تجري على يد الرسل - عليه السلام -؛ سواءً بسواءٍ. وكذلك الكاذب في دعواه يجوز أن تجري على يديه من الخوارق ما هو مِن فِعْل الله تعالى.
وعلى هذا؛ فإنّ المعجزة لم تعد دليلًا مستقلًا - حسبما تقرّر عند الأشاعرة - على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وما ذكَره "ابن رشد" هو في حقيقته اعتراضٌ على قول الأشاعرة؛ لا على مذهب أهل السنة والجماعة؛ ذلك أن هذه الآيات والبراهين خارجةٌ عن مقدور الثقلين، بخلاف ما يأتي به السحرة، وغيرهم. فلا يمكن أن يقع مثلُها لكاذبٍ. وإذا كان الأمر كذلك؛ فإنها من الله تعالى في مقام التصديق القولي لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، وأنّه رسول من عند الله حقًّا؛ وحينئذٍ فالعقل يُدرِك ضرورةَ الارتباط بين الآية والبرهان، وبين صِدْق مَنْ جرتْ على يديه.