للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فالظاهر المراد عند القاضي عبد الجبار هو ما جرى على وَفْق أُصوله الاعتزاليَّة = فإن خالفها لزِمَ حينئذٍ حَمْله على المجاز. قد أبان عن ذلك بقوله: (إن الكلام متى لم يمكن حمله على ظاهره وحقيقته؛ وهناك مجازان: أحدهما أقربُ، والآخر أبعد = فإن الواجبَ حمله على المجاز الأقرب دون الأبعد (١) .

فَبيِّنٌ ممّا سبق سوقه: جَمْع القاضي عبد الجبار بين النظريتين: النظرة التعاندية؛ التي تقرر إمكان مخالفة ظواهر النصوص للعقل. والنظرة النفعية؛ التي توظّف النص ليكون تبعًا لأصوله الاعتزاليَّة. والواقع أنْ ليس هناك إلَّا العقل المدخول، والذي أعني به: العقل الذي استبطن أُصولًا بدعيةً مفارقةً للدَّلائل الشرعيَّةِ؛ نقليّها، وعقليّها.

ومما يبرهن على أن لا حُجَّة عند المعتزلة إلّا ما قرره العقل الاعتزالي = ما كشف عنه القاضي عبد الجبار نَفْسُهُ بقوله: (فإِن قال: فيجب أَن تقولوا: إنّ ما في القرآن لا يَدُلُّ على التوحيد والعدل، وأنْ لا تحتجوا بذلك على المخالفين. قيل له: ليسَ يصحُّ الاحتجاج بذلك في إثبات التوحيد والعدل، وإنما نُورِدُه لنبيِّنَ خروج المخالفين عن التمسك بالقرآن، مع زعمهم أَنّهم أَشَدُّ تمسكًا به، ونُبيِّن أَنَّ القرآنَ كالعقلِ، في أنَّه يَدلُّ على ما نقول، وإنْ كانت دلالتُه على طريق التأكيد) (٢) .

ولم يكن الجمع بين هاتين النَّظرتين المُتنافيتين =مختصًّا بالمعتزلة، بل إنَّ الأَشاعرةً أَصابوا حظًّا من ذلك، فالقاضي أبو بكر بن العربي يُقنِّن في العلاقة بين الظواهر النَّقلية والعقل قانونًا، فيقول: (مِمَّا. . .جرى فيه


(١) المصدر السابق (٦٦٠)
(٢) " المغني في أبواب التوحيد والعقل " (٩٤ - الشرعيات) .

<<  <   >  >>