للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وخَلّة أخرى: أَن افتراض التعارُض -حتى على تقدير التَّسليم بمذهبه- ممتنعٌ؛ لأنَّ الدلائل العقلية عنده قطعيةٌ، والدلائل اللفظية ظَنّية مطلقًا. ومن المعلوم أنه لا تعارض بين القطعي والظني (١) و وجه امتناع أن تكون الدلائل النقلية مناقضة للبراهين العقلية = أنَّه لو كانت منافيةً لم يتحقق كونها أدلةً للعباد على مُرادات الله تعالى من خَلْقِهِ؛ لأن العقل حينئذٍ يأبى قبولها والعملَ بمقتضاها. واتفاق العقلاء يدل على كونها أدلةً؛ فبطل قولهم بالتنافي بين الدلالتين. هذا أمر.

والأمر الثاني: أن ورود التكليف بما يتنافى مع مُدْركات العقل ممّا لا يمكن بحال أن يصدقه العقل ويقبله = هو عند التحقيق تكليف بما لا يطاق. والتكليف بهذا النَّوع ساقط في الشريعة؛ فَعُلِم امْتناع تنافي الدلالتين.

والأمر الثالث: لو كانت الدَّلائل النَّقليَّةُ مُنْطويةً عَلَى مُخَالَفة الضَّرورةِ العقليَّة= لكان الكفار أوَّل من سارع لردِّها؛ لما عُلِمَ من تضاعُف كَلَبِهم في رَدِّ ما جاء به النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وتَشَوّفهم للظَّفَرِ بأدنى مَطْعن للطعن فيما بُعث به عليه الصلاة والسلام؛ حتى إنهم كانوا يفترون عليه، وعلى ما جاء به فتارة ينعتونه - صلى الله عليه وسلم - بأنه شاعر، وتارةً ساحر، وتارة مجنونٌ. ويفترون على ما جاء به: بأنه سحرٌ، وشعرٌ، وأَساطير الأولين. فلو كان فيما جاء به ما يتناقض مع دلائل العقل لكان ذلك أَوْلى ما يَنْعتُون به ما جاء به - صلى الله عليه وسلم - = فانتفاء ذلك منهم ضرورةٌ يُعلم منه جريان الدلائل النقلية على وفق مقتضى العقل الفطري.

وإنّما كان تكذيبهم للوحي لأمور أخرى؛ كالعناد، والاستكبار (٢).

ومصادمته للذهنية الوثنية التي كانت بمثابة القالب المعياري المنسوج بخيوط العادة والتقليد لما كان عليه الأسلاف.


(١) انظر: " درء تعارض العقل والنقل "لابن تيميَّة (١/ ١٨٥).
(٢) انظر: "الموافقات" (٣/ ٢٠٨ - ٢٠٩).

<<  <   >  >>