للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الوجودَين لا يتأتى إلا لمن لا يعرف عناصر الأشياء، فلا يقيم فرقًا بين الواجب، وبين الممكن والمستحيل.

وأما بطلان الأصل الثاني: أنّ حصول الاشتراك لجميع الخلق من جهة الربوبية والمشيئة ابتداءًا، لا يلزم منه حصول الاشتراك من جهة الحكمة، والأمر، والنهي، والعاقبة. فكما أنه معلوم بالضرورة النقلية التي تُثْبِتُ فرقًا بين حال المتقين وعاقبتهم، وبين حال المجرمين وعاقبتهم، كما قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦)} القلم، وقال عز وجل: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} الجاثية: ٢١

= فكذلك؛ الفرق بينهما معلوم بالضَّرورةِ العقليَّة والنَّفسيّة، فإنَّ النَّفْسَ البشريَّةَ مركوزٌ فيها التمييز بين ما يلائمها وتعرفه وتلتذّ به، وبين ما ينافيها وتنكره وتتألم منه؛ فيقع لها التفريق بين اللذَّةِ وأَسبابِها، وبين العذاب وأَسبابِهِ. وتحصيل هذا الفرق ليس مختصًا ببني آدم فقط؛ بل حتى الحيوانات تجد الفرق بينهما، فتجهد لنيل ما تلتذّ به، والفِرار مما تتألم منه.

وباستقرار هذا الفرق في النفوس = جاءت الشريعة لتكميل هذه الفطرة المستقرّة، فأمرت بالمعروف الذي يؤول إلى النعيم في العاجل والآجل، ونهتْ عن المنكر الذي يؤول إلى العذاب في العَاجِل والآجِل (١) . وهذا التمييز الذي يقع له = هو حقيقة الإرادة الأمرية الشرعية الدِّينيَّة؛ فمن ادَّعى التسوية بين ما يلائمه ويلتذ به، وبين ما ينافره ويتعذب به = فقد افترى، أو عَرَض لعقله ما يمنعه من شهود الفرق بينهما.


(١) انظر: "مجموع الفتاوى" (٨/ ٣١٠)، و "التدمرية" (٢١٨) .

<<  <   >  >>