للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وجوده الذاتي، ولحقيقة القوى المنطوية في كيان هذا الوجود، وفي إحساسه بالكون، وما وراء الكون مِنْ قُدرةٍ وتدبيرٍ. كما أنّها بعيد الأثر في حياته على الأرض؛ فليس مَن يعيش في الحيّز الصغير الذي تدركه حواسّه كمن يعيش في الكون الكبير الذي تُدركُه بديهتُه وبصيرتُه، ويتلقّى أصداءَه وإيحاءَاته في أطوائه وأعماقه، ويشعر أنّ مداهُ أوسعُ في الزمان والمكان من كلّ ما يدرِكُه وعْيُه في عمره القصير المحدود، وأن وراء الكون ظاهرِه وخافِيهِ حقيقةٌ أكبر من الكون؛ هي التي صدر عنها، واستمدّ من وجودِها وجودَه = حقيقة الذات الإلهيّة التي لا تُدركها الأبصار، ولا تحيط بها العقول) (١) .

والإيمان بالغيب مقتضى الضرورة الخُلُقيّة؛ فالدّنيا يسعى فيها البَرُّ والفاجر، والصالح والطالح. واختلافُ السعي يتطلّب المجازاةَ وإثابة المحسن، وعقوبةَ المسيء؛ ضرورة أن الخلق لم يُتركوا هملًا.

والدُّنيا ليست موضوعةً لهذا الغَرَضِ = فعُلِم يقينًا، أَنَّ هناك دارًا أُخرى مُغيَّبة عنّا تتمّ فيها هذه المجازاة؛ كلٌّ بحسَبِ سعْيِه (٢) .

وقضايا الاعتقاد الغيبيّة تنقسم من جهة دلالة العقل عليها إلى قسمين:

الأول: معقول. يكون مستند استدلال العقل عليه؛ بتوسّط أثر موضوعي يحكم العقل بضرورة التسبب والتلازم بين المسبَّب المشهود، وبين سببه الغيبيّ.

ووجه هذه الضَّرورة العقليَّة: أَنَّ العقلَ بمدركاته الفطريَّة يحكم بامتناع وجود أثر ومسبّب؛ هكذا بعفوية، ثم لا يكون لوجوده سببٌ اقتضى ترجيح إمكانية وجوده على عدمه. وليست هذه الضَّرورةُ العقليَّةُ


(١) "في ظلال القرآن" (١/ ٤) .
(٢) انظر: " الغيب والعقل" (١٢٥) .

<<  <   >  >>