للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

على هذا النوع من الغيوب =لكون الواسطة المحسوسة منتفية بين العقل وبين هذا النوع من الغيب، والتي من خلالها يحكم العقل بضرورة التلازم بينها وبين سببها الغيبي كما تقدم بيان ذلك.

وتعذر الاستدلال عليه ابتداء لايمنع من إثباته وإمكان الاستدلال على أَصله، وذلك بإقامة الدلائل القطعية على صدق المُخْبرِ به، وكذا أَيضًا لا يمنع من تعقُّلِ هذا الغيب فَهمًا وإِدراكًا لمعانيه.

فاستبان بهذا التقرير قيامُ البرهان على إثبات العقائد الغيبية؛ وجودًا، ومعنىً. فأمّا كون الإثبات متعلّقًا بالوجود فقط، لا بِكُنْه تلك العقائد؛ فلأنَّ العلمَ لو تعلَّق بإدراك كيفية تلك العقائد المغيّبة عنّا = لخرجت عن حيّز الغيب إلى نطاق الشَّهادة، ولانتفت بذا حكمة الابتلاء والاختبار.

وأما المراد بالمعنى المُثْبَتِ بهذه العقائد الغيبيَّة؛ فهو المفهوم اللُّغوي؛ لوجود وصفات هذا الغيب، بإثبات القدر المشترك بين معاني ما نعقله من هذا الوجود المشهود، وبين معاني تلك العقائد المغيّبة عنّا، التي قام الدليل على إثباتها.

وفي تقرير هذا المعنى يقول ابن تيمية - رحمه الله -: (إنّك تعلم: أنّا لا نعلم ما غاب عنّا إلاّ بمعرفة ما شهدنا. فنحن نعرف أشياء بحسّنا الظاهر أو الباطن، وتلك معرفة معينة مخصوصة، ثم إنا بعقولنا نعتبر الغائب بالشاهد، فيبقى في أذهاننا قضايا عامّة كلّية، ثم إذا خوطبنا بوصف ما غاب عنّا لم نفهم ما قيل لنا إلاّ بمعرفة المشهود لنا.

فلولا أنّا نشهد من أنفسنا جوعًا، وعطشًا، وشِبعًا، وريًّا، وحبًّا، وبُغضًا، ولَذَّةً، وألمًا، ورِضىً، وسُخطًا = لم نعرفْ حقيقةَ ما نُخَاطَب به؛ إذا وُصِف لنا ذلك، وأُخبِرْنا به عن غيرنا ... فلا بدّ فيما شهدنا، وما غاب عنّا من قدرٍ مُشترك؛ هو: مسمّى اللفظ المتواطئ. فبهذه

<<  <   >  >>