وأَمَّا الضَّرورة الأُخرى؛ فهي: الضَّرورة العقليَّة الحسِّيَّة، التي تَقْضي بوجود الجنِّ. ذلك أَنَّ العقلَ يستدلُّ بآثارهم المَحْسوسة في الوجُودِ على تحقُّقِ وجودهم؛ جَرْيًا على وَفق قانون السببيَّة، فما من إنسان إلا ويجد من أثر وسْوستهم. ومن أثرهم أيضًا: ما يتسلّطون به على بعض الخلق بالصّرع، فيتكلّم الجنّي على لسان المصروع بكلام يقطعُ سامعُه بأنه ليس من كلام المصروع .. إلى غير ذلك من الآثار الدالّة على وجودهم.
فليس صحيحًا إذًا زعمُ القاضي عبد الجبار بأن ليس هناك طريق لإثبات وجودهم سوى السمع، وفي ذلك يقول:(اعلم أنَّ الدليل على إِثبات وجود الجن=السَّمع دون العقل، وذلك أنّه لا طريق للعقل إلى إثبات أجسام غائبة؛ لأنَّ الشيء لا يدل على غيره من غير أن يكون بينهما تعلق كتعلُّق الفعل بالفاعل .. ولا يُعلم إثبات الجن باضطرار، ألا ترى أنَّ العقلاء المُكلَّفين قد اختلفوا، فمنهم من يُصدِّق بوجود الجن ومنهم مكذِّب ... =ولو عُلم بالاضطرار لما جاز أن يختلفوا في ذلك ... والأمر على ماهو عليه، دلالةٌ على أنّه لا يجوز أن يُعلمَ إثباتُ الجنِّ ضرورةً)(١) .
وقد يقال: إنَّ مرادَ القاضي عبد الجبار بـ"العقل" في هذا الموضع= الاستدلال العقلي المَحضْ، لا الاستدلال العقلي الذي تتوسط فيه الحواس.
والجواب: إنّ قصْره طرق الإثبات على السمع فقط يقضي على كل طريق أخرى. وما استدلّ به القاضي عبد الجبار - رحمه الله - على نفْي الضرورة لا يصلح دليلًا على نفْيها عند التحقيق؛ إذْ ليس من شرط الضرورة ألاّ يُنازَع فيها. فوجود الله تعالى، واتصافه بصفات الكمال والجلال ضرورة شرعيَّة؛ سمعيّة وعقلية، ومع ذلك نازَع في أصلها مَن نازَع من
(١) نقله الشِّبلي في "آكام المرجان في أحكام الجان " (١١ - ١٢) .