بينهما بيِّنُ الفساد؛ إذ من الممكن أن يكونوا غير مخاطَبين بالجهاد مع مؤمني الإنس، وقد يكون خطابهم مختصٌّ بقتال مَن كان من جنسهم من الكفّار. وقد ثبت ما يؤيّد ذلك؛ فقد روى أبو نضرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى:(أَنَّ رجلًا من الأَنصار خَرَجَ يُصلِّي مع قومه العشاء، فَسَبَتْهُ الجنّ، فَفُقِد، فانطلقَتْ امرأتُه إلى عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - فقصّت عليه القصّة، فسأل عنه عمر قومَه، فقالوا: نعم، خرج يصلّي ففُقِد. فأمرها أن تتربّص أربع سنين، فلمّا مضت الأربع سنين أتته فأخبرتْه، فسأل قومها، فقالوا: نعم. فأمرها أن تتزوج، فتزوّجت، فجاء زوجُها يخاصم في ذلك إلى عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه -، فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: يغيب أحدكم الزمان الطويل، لا يعلم أهله حياته. فقال له: إنّ لي عذرًا يا أمير المؤمنين، فقال: وما عندك؟ قال خرجتُ أصلّي العشاء، فسَبَتْني الجنّ، فلبثت فيهم زمانًا طويلًا، فغزاهم جنٌّ مؤمنون - أو قال: مسلمون- فقاتلوهم، فظهروا عليهم، فسبوا منهم سبايا، فسبوني فيما سَبَوا منهم، فقالوا: نراك رجلًا مسلما، ولا يحلّ لنا أن نسبيَك. فخيّروني بين المقام، وبين القفول إلى أهلي، فاخترت القفول إلى أهلي ... )(١) .
فهذا الأثر إذا تأمّلته فإنّه يقوّي ما سلف ذِكْرُه من كون الجن مخاطَبين بجنس الجهاد؛ سواءً كان جهاد مشركي الجنّ - والأثر السابق يقوّي ذلك - أو جهاد مشركي الإنس، وقد استُدل لذلك بما جرى لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -؛ حين وجّه جيشًا ورأس عليه سارية بن زنيم لفتح بلاد فارس ... وفيه: (فبينما عمر يخطب، فجعل ينادي: يا سارية الجبل. قال عمر: فإنّ لله جندًا تبلّغهم صوتي. فجاء البشير بالفتح، وشاع الخبر في الناس، فسألهم عمر: من أين لكم هذا؟ فقالوا: رأينا
(١) أخرجه البيهقي في "السنن" (٧/ ٤٤٥ - ٤٤٦) وصحّحه الألباني في "إرواء الغليل" (٦/ ١٥١) .